قصة بدء الوحي
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
[font="]الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ الأَعْلَى، أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى، نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ وَآلائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ شَرَعَ لَنَا أَعْيَادَنَا وَأَنْسَاكَنَا، وَأَكْمَلَ لَنَا دِينَنَا، وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَيْرُ مَنْ صَلَّى وَصَامَ، وَحَجَّ البَيْتَ الحَرَامَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.[/font]
[font="]أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْتَبِرُوا بِمُرُورِ الأَيَّامِ، وَتَصَرُّمِ الشُّهُورِ وَالأَعْوَامِ؛ فَبِالْأَمْسِ وَدَّعْتُمْ رَمَضَانَ، وَهَا أَنْتُمْ تُوَدِّعُونَ أَيَّامَ الحَجِّ، وَتَنْتَظِرُونَ العَامَ الجَدِيدَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُنْقِصُ أَعْمَارَكُمْ، وَيُقَرِّبُكُمْ إِلَى قُبُورِكُمْ، فَتَزَوَّدُوا لِرَحِيلِكُمْ بِمَا يَنْفَعُكُمْ؛ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).[/font]
[font="]أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ يَتَأَمَّلُ المُؤْمِنُ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ مَعَ رُؤْيَتِهِ لِضَلالِ الضَّالِّينَ وَتَكْذِيبِ المُكَذِّبِينَ؛ يَتَشَوَّفُ لِمَعْرِفَةِ بِدَايَاتِ بُزُوغِ النُّورِ المُبِينِ، وَأُولِيَاتِ نُزُولِ الوَحْيِ عَلَى الرَّسُولِ الأَمِينِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلا سِيَّمَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأَعْظَمِ الأَوْصَافِ وَأَحْسَنِهَا؛ (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).[/font]
[font="]أَيُّهَا الإِخْوَةُ: وَهَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ فِي قِصَّةِ بُزُوغِ هَذَا النُّورِ، وَبِدَايَاتِ نُبُوَّةِ حَامِلِهِ وَمُبَلِّغِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- حَدَّثَتْ بِهِ حَافِظَةُ الإِسْلامِ وَرَاوِيَتُهُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ أَنْ حَفِظَتْهُ وَوَعَتْهُ، فَقَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِيمَا رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: ((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ؛ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [/font][font="][العلق: 2][/font][font="] - وَمَعْنَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ)؛ أَيْ: لاَ أُحْسِنُ القِرَاءَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ خَائِفٌ يُرْعَدُ-: "مَا قَرَأْتُ كِتَابًا قَطُّ وَلَا أُحْسِنُهُ، وَمَا أَكْتُبُ وَمَا أَقْرَأُ" -فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَالَ:«زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنَا أَوَّلَ مَا رَأَى -يَعْنِي: رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم- أنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَهَا لِامْرَأَتِهِ خَدِيجَةَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ عَنِ التَّكْذِيبِ، وَشَرَحَ صَدْرَهَا لِلتَّصْدِيقِ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَصْنَعَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى بَطْنَهُ شُقَّ ثُمَّ غُسِلَ وَطُهِّرَ، ثُمَّ أُعِيدَ كَمَا كَانَ، قَالَتْ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَأَبْشِرْ، ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مَجْلِسٍ كَرِيمٍ مُعْجِبٍ، كَانَ النَّبِيُّ -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: أَجْلَسَنِي عَلَى بِسَاطٍ كَهَيْئَةِ الدُّرْنُوكِ، فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فَبَشَّرَهُ بِرِسَالَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حَتَّى اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: اقْرَأْ، فَقَالَ: كَيْفَ أَقْرَأُ؟ فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، قَالَ: فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَاتَّبَعَ مَا جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مُنْقَلِبًا إِلَى بَيْتِهِ، جَعَلَ لَا يمرُّ عَلَى شَجَرٍ وَلَا حَجَرٍ إِلَّا سلَّم عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، مُوقِنًا أَنَّهُ قَدْ رَأَى أَمْرًا، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ -وَالنَّامُوسُ هُوَ: صَاحِبُ السِّرِّ- الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ-وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جَاوَرْتُ فِي حِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ الوَادِيَ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [/font][font="][المدثر: 2][/font][font="] إِلَى قَوْلِهِ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [/font][font="][المدثر: 5][/font][font="]، فَحَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ.[/font]
[font="]نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ.[/font]
[font="]وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ..[/font]
[font="] [/font]
[font="]أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).[/font]
[font="]أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ قَرَأَ حَدِيثَ بَدْءِ الوَحْيِّ، وَقِصَّةَ البِعْثَةِ حِينَ لَمْ يَكُنْ بِالأَرْضِ مَنْ يَدِينُ بِالإِسْلامِ، ثُمَّ قَارَنَ ذَلِكَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَدَدِ المُسْلِمِينَ فِي الأَرْضِ، وَبِمَا يَرَى مِنْ أَفْوَاجِ الحَجِيجِ الَّتِي تَمْلَأُ الحَرَمَ المَكِّيَّ وَمَا حَوْلَهُ عَلِمَ عَظَمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي تَذْلِيلِ قُلُوبِ المَلايِينِ مِنْ خَلْقِهِ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ، وَزِيَارَةِ مَشَاعِرِهِ، وَأَدَاءِ مَنَاسِكِهِ، وَعَلِمَ فَضْلَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالهِدَايَةِ لِلْإِيمَانِ، وَالانْتِسَابِ لِخَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَلَهَجَ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ وَذِكْرِهِ وَتَكْبِيرِهِ، وَحَافَظَ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ الزَّيْغِ، وَعَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الذَّهَابِ وَالنَّقْصِ بِتَزْكِيَتِهِ وَنَمَائِهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. [/font]
[font="]لَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ -حَرَسَهَا اللهُ تَعَالَى- مُقْفِرَةً مِنَ الإِيمَانِ الحَقِّ، مُمْحِلَةً مِنَ الهُدَى والرَّشَادِ؛ حَتَّى بَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا النَّبِيَّ الهَاشِمِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَآزَرَتْهُ وَأَيَّدَتْهُ وَثَبَّتَتْهُ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ عَلَى الإِيمَانِ حَتَّى رَأَيْتُمْ كَثَافَةَ الحُجَّاجِ وَقَدْ غَصَّتْ بِهِمُ المَشَاعِرُ المُقَدَّسَةُ فِي مَشْهَدٍ مَهِيبٍ يَمْلَأُ القُلُوبَ تَعْظِيمًا للهِ تَعَالَى.[/font]
[font="]وَفِي هَذَا الحَدِيثِ العَظِيمِ فَضْلُ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، وَأَنَّهَا عَوْنٌ لِزَوْجِهَا فِي الشَّدَائِدِ، وَكَمْ ثَبَتَ مِنْ رِجَالٍ فِي أَعْسَرِ المَوَاقِفِ بِسَبَبِ زَوْجَاتٍ لَهُمْ صَالِحَاتٍ، كَمَا فَعَلَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا![/font]
[font="]وَفِيهِ أَنَّ أَعْمَالَ الخَيْرِ لاَ تَهْدِي صَاحِبَهَا إِلاَّ إِلَى خَيْرٍ؛ وَلِذَا حَكَمَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى أَنَّ مَا يَعْتَرِيَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَوَادِرِ الوَحْيِّ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَاسْتَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْخَيْرِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَصِدْقِ الحَدِيثِ، وَإِكْسَابِ المَعْدُومِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَإِعَانَةِ النَّاسِ عَلَى النَّوَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ، وَفِي هَذَا تَرْغِيبٌ لَنَا عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ، وَبَذْلِ المَعْرُوفِ، وَالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ؛ فَإِنَّ عُقْبَى ذَلِكَ خَيْرٌ لِلْإِنْسَانِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.[/font]
[font="]وَيُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ بَدْءِ الوَحْيِ أَنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ مَخُوفٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْضِيَ بِهِ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ حِكْمَتَهُ وَرَجَاحَةَ عَقْلِهِ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ؛ لِيُمَحِّضَ النُّصْحَ لَهُ، وَيَدُلَّهُ عَلَى الخَيْرِ، وَعَلَى النَّاصِحِ أَنْ يُهَوِّنَ وَقْعَ الأَمْرِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُؤَمِّنَهُ فِيهِ، وَيُسَرِّيَ عَنْهُ بِتوَقُّعِ الخَيْرِ فِيهِ.[/font]
[font="]وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الخَيْرِ يَتَمَنَّوْنَ فِعْلَ الخَيْرَ وَلَوْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ؛ فَيُؤْجَرُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ؛ كَمَا تَمَنَّى وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ شَابًّا لِيَنْصُرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَأَنَّهُ نَصَرَهُ مَعَ أَنَّهُ مَاتَ فِي أَوَّلِ البَعْثَةِ! وَهَذَا يُبَيِّنُ قَدْرَ النِّيَّةِ وَفَضْلَهَا، وَكَمْ فَاتَنَا مِنَ الخَيْرِ بِسَبَبِ عَدَمِ اسْتِحْضَارِهَا؟! فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَفَقَّدَ قُلُوبَنَا، وَنَجْتَهِدَ فِي إِصْلاحِ نِيَّاتِنَا.[/font]
[font="]وَفِي الحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ كَمَالِ الإِيمَانِ، وَالاشْتِيَاقِ لِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى؛ حَتَّى كَادَ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ لَمَّا أَبْطَأَ الوَحْيُ عَنْهُ؛ شَوْقًا إِلَى كَلامِ اللهِ تَعَالَى رَغْمَ مَا يَعْتَرِيهِ مِنْ رَهَقٍ وَمَشَقَّةٍ أَثْنَاءَ تَنَزُّلِ الوَحْيِ، حَتَّى إِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ؛ وَذَلِكَ لِثِقْلِ الوَحْيِّ وَشِدَّتِهِ عَلَيهِ؛ (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)، وَرُوِيَ عَنْهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِّ؟ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَعَمْ، أَسْمَعُ صَلَاصِلَ، ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَفِيضُ؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.[/font]
[font="]فَمَنْ مِنَّا -أَيُّهَا الإِخْوَةُ- يَشْتَاقُ لِكَلامِ اللهِ تَعَالَى، وَيُدَاوِمُ عَلَى تِلاوَتِهِ بِخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ مُسْتَحْضِرًا قِصَّةَ بَدْءِ الوَحْيِ وَتَنَزُّلِ القُرْآنِ؛ ذَلِكَ الكِتَابُ الَّذِي بِهِ عَرَفْنَا رَبَّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَتَعَلَّمْنَا مَا يُقَرِّبُنَا إِلَيْهِ، وَمَا يُبَاعِدُنَا عَنْهُ؛ فَحَقٌّ عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَاهَدَهُ، وَلا نَهْجُرَ تِلاوَتَهُ وَحِفْظَهُ وَتَدَبُّرَهُ وَالعَمَلَ بِهِ، وَإِلاَّ نَكُونُ قَدْ فَرَّطْنَا فِي أَعْظَمِ شَيْءٍ هُدِينَا إِلَيْهِ وَضَلَّ عَنْهُ غَيْرُنَا؛ (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).[/font]
[font="]وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...[/font]
المرفقات
الأحاديث الطوال (3) مهملة.doc
الأحاديث الطوال (3) مهملة.doc
الأحاديث الطوال (3).doc
الأحاديث الطوال (3).doc
المشاهدات 6053 | التعليقات 9
جزاك الله خيرا فضيلة الشيخ
أعجبني كثيراً اختيارك لحديث بدء الوحي في هذا الوقت الذي رأينا فيه جموع الحجيج
وما أوردته من صلاح النية وفوات عظيم الأجر بسبب التهاون فيها،
وما ذكرته من الحث على الاهتمام بكتاب الله الكريم
خطبة غنية متكاملة كعادتك أيها الشيخ المبارك
أحسنت، وكتب الله أجرك مضاعفاً في ميزان حسناتك، آمين.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
بارك الله فيك
وأرجو التأكد من الخبر التالي
وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ،
وهل هو مروي عند البخاري وفقك الله ياشيخنا
بارك الله في علمك ووفقك لكل خير
شيخنا الجليل
أشيد بحسن اختيار الموضوع وربطه بانتهاء موسم الحج والانصراف من مكة مهبط الوحي ومنبع النور، وأثَنَّي بالثناء على جودة الخطبة وحسن صياغتها، وهو ما يعرفه عنك محبوك وجمهور المصلين معك، اثابك الله وسددك.
شيخ إبراهيم لدي استشكال يتعلق بصحة الروايات التي ذُكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن ينتحر أو (يتردى من شاهق) من حيث الإسناد، خصوصاً أن ما ورد في البخاري إنما هو من البلاغات التي لا يعني ذكرها ثبوتها عند الإمام البخاري، ثم هي من مراسيل الزهري ولعلماء الحديث موقف معروف من مراسيله رحمه الله وقد ابان هذا الموقف ابن حجر في الفتح.
وإنما هذه إشارة واستفسار أتمنى منكم إبداء رأيكم حيال ذلك.
ولك خالص الدعاء بالتوفيق والسداد
جزاك الله خيرا
الإخوة الكرام والمشايخ الفضلاء: الشمراني وخطيب وشبيب القحطاني وأبو مها، شكر الله تعالى لكم مروركم وتعليقكم وتقبل دعاءكم..
الشيخ الكريم عبد العزيز آل فريان، جزاك الله تعالى خيرا على استعراضك لإيجابيات الخطبة، وعلى دعائك المبارك، وأسأل الله تعالى أن ينفع بك، وأن يوفقنا جميعا لنفع الناس؛ فإن موعظة الناس لصلاح قلوبهم واستقامتهم على دينهم أعظم نفع يقدم لهم، وأفضل صدقة تبذل لهم..
الشيخ الكريم فهد ابن غنيم، شكر الله تعالى لك مرورك وتعليقك ودعاءك وتساءلك الذي كان في محله، والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.
الشيخ المبارك عبد العزيز الشاطري شكر الله تعالى لك مرورك، وإشادتك بالخطبة وذكر إيجابياتها، وأسأل الله تعالى أن يستجيب دعاءك، وبالنسبة للاستشكال الذي استشكلته كما استفسر عنه الشيخ فهد بن غنيم فالحق معك في ذلك، وهو ليس من مراسيل الزهري -مع ضعفها- بل أضعف منه لأنه بلاغ، والبلاغات أقل من درجة المراسيل، وإن اعتبرت منها فهي أدنى منزلتها، لكن غرني في ذلك أنه جاء من طريق أخرى أشار إليها بعض الكتاب المعاصرين، وصورة سندها متصلة؛ إذ ساقها بعد أن حذف قول الزهري: فيما بلغنا، فدخل البلاغ في الرواية المسندة، فظننت أن البخاري رواها مسندة في موضع آخر كما هي عادته، أو رواها غيره مسندة، فبحثت سريعا فلم أعثر على ما أريد، وكان الوقت ضيقا، فتركتها كما هي، على أن أعود إليها إذا أردت تخريج أحاديث الخطبة وأذكر ذلك في الحاشية..
لكن لما رأيت استشكالكم اليوم راجعت كلام ابن حجر والألباني على الحديث فوجدتهما يجزمان أن بلاغ الزهري هذا لم يأت مسندا، وذكر الألباني أن ما ظنه بعضهم مسندا قد أسقط الراوي فيه قول الزهري: فيما بلغنا، وإلا فمخرج الحديث واحد..
وعليه فإني سأمحو هذه الفقرة من الخطبة لعدم ثبوتها، وأوصي من أخذها من إخواني الخطباء بمحوها من الوورد، والضرب عليها في الورق؛ لئلا تقع في يد من يخطب بها وهو لم يتبين، وأستغفر الله تعالى لخطئي..
وأكرر شكري الجزيل للشيخ فهد بن غنيم على استشكاله، وللشيخ عبد العزيز الشاطري على استشكاله وبيانه، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهما..
الشمراني الشمراني
تعديل التعليق