قِصَّة اللَّيث عبدِالله بنِ أُنَيْس

راشد بن عبد الرحمن البداح
1441/12/23 - 2020/08/13 06:53AM

حَمْداً للهِ الذي وسِعَ كلَ شيءٍ رحمةً وعِلمًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، المنعوتُ بأشرفِ الصفاتِ حِكمةً وحُكماً. وعلى آلِهِ وأزواجهِ وصحبهِ الحائزينَ نِعَماً جمّاً، أما بعدُ:

أتعرِفُ قصةَ الصحابيِ البطلِ اللَّيْثِ عبدِ الله بنِ أُنيسٍ t؟! إنها قصةُ طاعةٍ وشجاعةٍ، وذكاءٍ وزكاءٍ. وليتَ المجالسَ تُعمَرُ بمثلِ هذهِ البطولاتِ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: مَنْ لِي بِخَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ. إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّه يَجْمَعُ لِيَ النَّاسَ لِيَغْزُوَنِي؟! المهمةُ صعبةٌ، والعدوُ يَتوقدُ ذكاءً وفتكًا، ولكنَّ عبدَ اللهِ أذكَى وأشجعُ،  والدفاعُ عن الرسولِ t أوجَبُ، لكنَّ الشُقَّةَ بعيدةٌ، والطريقُ مَخُوفةٌ، مِنَ المدينةِ إلى مكةَ أربعُمائةٍ وثلاثونَ كيلوًا، وتُقْطَعُ بالإبلِ في أربعةِ أيامٍ.

لكنَّ البطلَ المِغْوَارَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُنَيْسٍ لمْ يترَدَّدْ. فَقالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ [وَالَّذِي أَكْرَمَكَ]([1]) قَالَ: هُوَ بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ.

أواحِدٌ يَقتلُ رئيسَ جيشٍ بين حُراسُهُ؟! واحدٌ لا مُصاحِبَ ولا نَصيرَ له، لكنَّ اللهَ عَضُدُه ونَصيرُه، بِه يحُولُ، وبِه يصُولُ. ولكنَّ عبدَ اللهِ عندَهُ مشكلةٌ، أنه سيَلقَى عَدُوًا لا يَعرفُ وجهُهُ!

قَالَ ابْنُ أُنَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، انْعَتْهُ لِيَ حَتَّى أَعْرِفَهُ، قَالَ: إِذَا رَأَيْتَهُ  هِبْتَهُ [و]وَجَدْتَ لَهُ إِقْشَعْرِيَرَةً. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا هِبْتُ شَيْئًا قَطُّ.

للهِ أنتَ يا ابنَ أُنيسٍ ما أَشجعَكَ، وأَجْسرَ قلبَكَ، لكنَّ الذي لا يَنطِقُ عن الهَوَى أخبرُكَ برَهبةٍ ستقَعُ منكَ لا محالةَ.

خَرجَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، يدَّرِعُ سوادَ الليلِ، ويُقطِّعُ الفِجاجَ، ويَنتهِزُ الإدْلاجَ، يَصعَدُ جَبَلاً، ويَنحدِرُ مِن جَبَلٍ، يَريدُ أن يَنْهَبَ الدقائقَ نَهبًا. حتى وَصَلَ مَشارِفَ مكةَ.

قَالَ: حَتَّى وَقَعْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ [يَوْمَئِذٍ قِبَلَ عَرَفَةَ]([2])، مَعَ ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنَّ مَنْزِلًا، أي نساءَهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ [رُعِبْتُ مِنْهُ حِينَ رَأَيْتُهُ، فَعَرَفْتُ حِينَ قَرُبْتُ مِنْهُ أَنَّهُ كمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ]([3]) ووَجَدْتُ مَا وَصَفَ لِيَ مِنَ الْإِقْشَعْرِيرَةِ.

اللهُ أكبرُ! إنها آيةٌ عجيبةٌ! أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ.

قَالَ المقدامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ [قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ]([4])وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُحَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ أُومِئُ بِرَأْسِي الرُّكُوعَ، وَالسُّجُودَ، [فَصَلَّيْتُ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَأَشْفَقْتُ أَنْ يَرَانِيَ]([5]).

الصلاةُ شُغْلُهمْ الشاغلُ، حتى في حالِ الحربِ والخوفِ، فأينَ الذي ينامُ عن صلاةِ الظهرِ والعصرِ، بحجةِ السهرِ على أَلعابهِ وسِنابِهِ؟!

قَالَ الصِّنْديدُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ قَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ، وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ فَجَاءَكَ لِهَذَا، قَالَ: أَجَلْ أَنَا فِي ذَلِكَ.

إنها رَبَاطَةُ جأشٍ، وخَدْعَةُ حَرْبٍ. قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ، حَتَّى قَتَلْتُهُ. لقَدْ تَمَّتْ المهمةُ بكلِّ بَسالةٍ ودِقةٍ وسُرعةٍ.

قَالَ الضِّرغامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: ثُمَّ خَرَجْتُ، وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُكِبَّاتٍ عَلَيْهِ، [حَتَّى غَشِيتُ الْجَبَلَ، فَمَكَثْتُ فِيهِ، حَتَّى إِذَا هَدَأَ النَّاسُ عَنِّي خَرَجْتُ]([6]) فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ e فَرَآنِي فَقَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ.

إي والله! أفلحَ الوجهُ الذيْ يُنفِّذ أمرَ رسولِ اللهِ، ويُدافِعُ عن عِرْضِ رسولِ اللهِ e

قُلْتُ: قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: صَدَقْتَ. يُصدِّقُه؛ لأنَّ الوحيَ سَبَقَهُ يُبشِّرُهُ.

لكنْ ما الجائزةُ التي يَستحقُّها هذا البطلُ المؤمنُ. أتدرِيْ ما الجائزةُ؟!

قَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمَّ قَامَ مَعِيeفَدَخَلَ بِي بَيْتَهُ فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: أَمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُنَيْسٍ. فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصَا؟ قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللهِ e، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسِكَهَا، قَالُوا: أَوَلَا تَرْجِعُ إِلَى رَسُولِ اللهِ e فَتَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لِمَ أَعْطَيْتَنِي هَذِهِ الْعَصَا؟ قَالَ: آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُونَ يَوْمَئِذٍ. فَقَرَنَهَا عَبْدُ اللهِ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ [وُضِعَتْ عَلَى بَطْنِهِ، وَكُفِّنَ، وَدُفِنَ، وَدُفِنَتْ مَعَهُ]([7]) ([8]).

(إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، مَا شَاءَ اللهُ جَعَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا شَاءَ جَعَلَ خَلْفَهُ)([9]) وصلى اللهُ وسلمَ على المبعوثِ بأكملِ المِللِ وأزكاهَا، ورضِيَ اللهُ عنْ أصحابِهِ أعلمِ الأمةِ وأتقاها:

فلقد منَّ اللهُ على أمَّتنا بعظماءَ صَحِبوا رسولَ اللهِ e فآوَوْا ونَصَرُوْا.

ولِذا قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ([10]).

فلْنَلْقَ ربَّنا بمعرِفةِ حَقِّ الصحابةِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ قائِلِيْنَ:رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

  • اللهم يا خيرَ من دُعيَ، وخيرَ من سئلَ، يا أهلَ التقوى، ويا أهلَ المغفرةِ.
  • اللهم احفظْ علينا دينَنا وأمنَنا وأعراضَنا، وزِدْنا تَبصُّرًا بكيدِ متبعِي الشهواتِ، الذين يُريدونَ أن نَميلَ ميلاً عظيمًا.
  • اللهمَّ احمِ مقدساتِنا وحدودَنا، واحفظْ مجاهدِينا، واشفِ مَرضانا، وارحمْ موتانا، وأرخِصْ أسعارَنا، واقضِ اللهم ديونَنا.
  • اللهم احفظْ وليَ أمرِنا، ووليَ عهدِه، وأمراءَهم، وارزقهُم بطانةَ الصلاحِ، واكفِنا وإياهم وبلادَنا شرَّ الأشرارِ، وكيدَ الفجارِ، والحاسدينَ والمتربصينَ.

 

([1])أخبار مكة للفاكهي (4/ 306)

([2])حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 5)

([3])السابق (2/ 5)

([4])السابق (2/ 5)

([5])السابق (2/ 5)

([6])أخبار مكة للفاكهي (4/ 306)

([7])حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 5)

([8])مسند أحمد (16047) الألباني في الصحيحة (2981) واختاره الضياء في  المختارة (3/ 382) وقال في مجمع الزوائد (6/ 211) رجاله ثقات. وأخرجه مختصرًا أبو داود (1380) وحسَّن الحافظ النووي إسناد أبي داود في خلاصة الأحكام (2/ 750) وابن حجر في فتح الباري (2/ 437).

([9]) مسند أحمد (15861)

([10])مسند أحمد (3600)

المرفقات

قصة-عبد-الله-بن-أنيس

قصة-عبد-الله-بن-أنيس

قصة-عبد-الله-بن-أنيس-2

قصة-عبد-الله-بن-أنيس-2

المشاهدات 1128 | التعليقات 0