قصة الإسراء والمعراج وبعض عِبَرها

عبدالله القاضي
1442/06/23 - 2021/02/05 18:29PM

من آيات الله تعالى التي أراها نبيه محمدا ﷺ: الإسراء والمعراج.

وقد ذكر الله تعالى الإسراء في القرآن في سورة سُميت باسمه، هي سورة الإسراء، التي قال الله تعالى فيها: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

وذكر الله تعالى المعراج إلى السماء في سورة النجم، فقال الله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾.

عباد الله

كانت هذه الحادثة والنبي ﷺ في ضيق وبلاء شديد، من تكذيب المشركين إياه، واستهزائهم به، وتعذيبهم لأصحابه، ثم وفاة عمه أبي طالب الذي كان قائما بنصره، ووفاة زوجه خديجة -رضي الله عنها- المؤازرة المواسية له.

لكنه ﷺ كان موقنا بوعد الله، صابرا لحكمه: ﴿ولقد كذبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين﴾.

فجاءت هذه الحادثة إكراما للنبي ﷺ: إن كان أهل الأرض لم يعرفوا قدرك يا محمد؛ فإن أهل السماء قد عرفوك، فأنت أنت إمام المرسلين، وخليل رب العالمين.

فعن أنس بن مالك t أن رسول الله ﷺ قال: «أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه». قال: «فركبته حتى أتيت بيت المقدس»، قال: «فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء».

قال: «ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل u بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل ﷺ: اخترت الفطرة.

ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل u فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكرياء -صلوات الله عليهما-، فرحبا ودعوا لي بخير.

ثم عرج بي إلى السماء الثالثة كذلك، فلقي النبي ﷺ فيها يوسف u.

ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فلقي فيها إدريس u، قال الله U: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.

ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فلقي فيها هارون u.

وفي السماء السادسة موسى u.

قال ﷺ: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ﷺ، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم ﷺ مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.

وقال إبراهيم u يا محمد: أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم: أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء ، وأنها قيعانٌ، وأن غراسها: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».

قال ﷺ: ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال».

قال ﷺ: «فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها.

وفي هذا المكان رأى النبي ﷺ جبريل على صورته الحقيقية له ستمائة جناح، يقول تعالى: (أفتمارونه على ما يرى* ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى* إذ يغشى السدرة ما يغشى* ما زاغ البصر وما طغى* لقد رأى من آيات ربه الكبرى)

ثم انطلق جبريل بالنبي ﷺ حتى انتهى به إلى داخل الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، أي قباب اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك.

ثم انطلق به إلى نهر الكوثر؛ فإذا حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وإذا طين النهر من المسك.

ثم عرج به جبريل بعد ذلك إلى مكان سمع فيه النبي ﷺ صريف الأقلام، أي صوت الأقلام، التي تكتب بها الملائكة قضاء الله تعالى ووحيه.

قال ﷺ: فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى ﷺ، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك؛ فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم».

قال: «فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب، خفف على أمتي، فحط عني خمسًا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حط عني خمسًا، قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف».

قال: «فلم أزل أرجع بين ربي -تبارك وتعالى- وبين موسى uحتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرًا، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة».

قال: «فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ﷺ فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف»، فقال رسول الله ﷺ: «فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه».

ثم بعد هذه الجولة السماوية والآيات الكبرى التي رآها النبي ﷺ نزل به جبريل u من السماء العليا إلى الأرض، فنزل إلى أرض الإسراء ببيت المقدس فصلى النبي ﷺ والأنبياء صفوفٌ خلفه ﷺ، ثم عاد به جبريل إلى مكة من آخر الليل.

ويصبح النبي ﷺ ذلك في مكة مهموما حزينا؛ فعن عبدالله بن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: "لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي؛ فقعد معتزلا حزينا، قال: فمر به عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله ﷺ: " نعم " قال: ما هو؟ قال: " إنه أسري بي الليلة " قال: إلى أين؟ قال: " إلى بيت المقدس؟ " قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: " نعم " قال: فلم يره أنه يكذبه، مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله ﷺ: " نعم ". فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي! قال: فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله ﷺ: " إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ " قال: " نعم " قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه، متعجبا للكذب زعم قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد، ورأى المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت "، قال: " فجيء بالمسجد وأنا أنظر حتى وضع دون دار عقال أو عقيل فنعتّه، وأنا أنظر إليه فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب! رواه أحمد.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لمّا أُسْري بالنبيّ ﷺ إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدّث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممّن آمن، وسعوا إِلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنّه أُسْريَ به الليلة إِلى بيت المقدس! قال: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدِّقه! قال: نعم، إِني لأصدِّقه بما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سُمِّي الصدِّيق) رواه الحاكم.

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

-----

كانت هذه الحادثة الجليلة في آخر العهد المكي، قبل الهجرة بسنة تقريبا، قيل في شهر ربيع الأول، وقيل في رجب، فلم يثبت تاريخها بعينه، ولم يشرع النبي ﷺ عبادة أو احتفالاً لها، وإنما المشروع تدبر هذه الحادثة والاعتبار بها.

فمن العِبر في هذه الحادثة:

أن هذه الحادثة آية باهرة، ومعجزةٌ خارقةٌ، ذكرها الله سبحانه في موضعين من كتابه، وتواتر ثبوتها عن النبي ﷺ؛ فيجب على المسلم الإيمان بها، فإن الله تعالى على كل شيء قدير، بل إن من العقل أن يسلم الإنسان للشرع في الأمور التي لا يقدر العقل على إدراكها.

أيها المسلمون! في هذه الحادثة درس لنا، ألا نتخذ ردات أفعال الكفار مقياسا لنا، من المسلمين اليوم من يتخذ موقفه بناء على سؤال: ماذا سيقول عنا العالم؟ ماذا سيقولون عن شريعة الحجاب، ماذا سيقولون إذا التزامنا حدود الله في المجال الاقتصادي، أو السياسي أو غيره، أفٍّ لهم، ما أجهل من يتخذ الكفرة معيارا لإيمانه، وميزانا لأفكاره، هؤلاء المشركون لم يصدقوا بالإسراء لاعتقادهم باستحالته، نظرا منهم إلى طبيعة التنقل والمواصلات في زمانهم، كيف بهم لو رأوا ما وصل إليه البشر اليوم من سرعة الانتقال من مكان إلى آخر، لعلموا أنه ليس في الأمر أية استحالة، وكذلك البشر في كل جيل، يُنكرون ما لم يألفوه، ويقيسون قدرة الله تعالى بقدرتهم الضعيفة، ويزنون شرع الله الكامل بأذواقهم وآرائهم السخيفة. فإياكم إياكم أيها المسلمون! ﴿فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون﴾.

ومن الإشارات في هذه الحادثة: إن الإسراء بالنبي ﷺ من مكة إلى المسجد الأقصى فيه دلالةٌ واضحةٌ على شرف هذه البقعة المباركة، فهي أرض النبوات، وأولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى رسول الله ﷺ، ومنها عرج إلى السماء.

وهذه الأرض -كغيرها من أرض الله- أحقّ الناس بها هم القائمون بدين الله حقا، فكانت بنو إسرائيل أحق الناس بها إذ كانوا على الدين الصحيح، قال لهم موسى u: ﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم﴾، لكنهم لتحريفهم وتعصبهم، يزعمون أنهم أحق بها دائما، ولو كفروا بالله، وكذبوا أنبيائه، ويقولون عن أنفسهم: ﴿إنهم أبناء الله وأحباؤه﴾، والحق: أن البشر كلهم عبيد الله، ليس بينه وبين أحد منهم نسب، فأتقاهم أولاهم بالله، ولما كان المسلمون على الإخلاص والاستقامة نصرهم الله نصرا مؤزرا، ولم بعُدوا عن المنهج سلط الله عليهم هذه الشرذمة من اليهود، لكن قد أخبر النبي ﷺ بأن الجولة في آخر الزمان للمؤمنين من هذه الأمة.

عباد الله! في هذه الحادثة بيان عظيم لشأن الصلاة عند الله، فالصلاة مناجاة مباشرة بين العبد وربه، والصلاة فُرضت فرضا مباشرا من رب العالمين على سيد المرسلين بلا واسطة، بخلاف بقية شرائع الدين، فكلها فرضت بواسطة الوحي من جبريل u.

المشاهدات 832 | التعليقات 0