قَسْوَةُ القلب.
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ الغفورِ الودودِ، ذي العرشِ المجيدِ، سبحانه هو الفَعَّالُ لما يريدُ، هو يُبدِئُ ويُعيدُ، ويُحيي ويميتُ، بيدهِ الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، مُقَلِّبُ القلوبِ، وكاشفُ الكروب، يَسْمَعُ الشُّكْرَ والشَّكْوَى، ويَعْلَمُ السِّرَّ والنَّجْوَى، وَهُوَ عَلَّامُ الغُيُوب.
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ، واعلمُوا أنَّكُم مُلَاقُوهُ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ القلوبَ دُوَلٌ مُحْكَمَةٌ، وخزائنُ مقفلةٌ، وحُجُبٌ مُسْدَلَةٌ، جعلهَا اللهُ عزَّ وجلَّ أَوْعِيَةً للإيمانِ والكُفْرِ، والخيرِ والشَّرِّ، والحبِّ والبُغْضِ، قالَ تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}الحجرات: [7]، وقال سبحانه: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}المنافقون: [3].
عبادَ اللهِ: والقلبُ هو مَحِلُّ نظر الله من العبدِ، تَصْلُحُ الجوارحُ بصلاحِهِ، وتَصْدَعُ بأمرِهِ، وتخضعُ لسلطانِهِ وقهرِهِ، قال ﷺ:(أَلَا وَإِنّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) أخرجه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩)
وقال ﷺ: (تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ) أخرجه مسلم (144).
أيُّهَا المؤمنونَ: ولأهميةِ القلبِ ومكانَتِهِ، حثَّ اللهُ عزَّ وجلَّ على تَعَاهُدِهِ، وتَفَقُّدِهِ بينَ الفينةِ والأخرى، قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء: [88-89] وما سُمّيَ القلبُ قلبًا إلا لِتَقَلُّبِهِ، قالَ ﷺ: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) أخرجه مسلم (2654).
أيُّهَا المؤمنونَ: ومِنْ أخطرِ الأمراضِ التي تُصِيبُ القلبَ فتُهْلِكه: القَسْوَةُ، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، وأعراض هذا المرض هي صلابة القلب وشدّته، فلا يلينُ لموعظةٍ، ولا يتأثَّرُ بآيةٍ، بل هو مُعْرِضٌ عن ربِّهِ مُلْتَفِتٌ إلى غيرِهِ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:
فاتقوا الله عِبَادَ اللهِ، وَاعلموا أنّ مِنْ أهَمِّ أسبابِ قسوة القلبِ ما يلي:
أولًا: الغفلةُ عن ذكرِ الله، وعن تدَبُّرِ كتابِهِ، قال تعالى موبِّخًا الإنسانَ على قسوةِ قلبه، وصلادَتِهِ أمامَ القرآن: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر: 21].
وقال سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..} الأنبياء: [1-3].
ثانيًا: طولُ الأمل، وهو سببٌ للتكاسلِ عن العبادةِ، وقسوةِ القلبِ، وتأخيرِ التَّوْبَةِ.
ثالثًا: كثرةُ الذُّنُوب: قال ﷺ:(إنّ المُؤْمِنَ إذا أذنبَ، كانت نُكْتةٌ سَوداءُ في قلبِهِ فَإن تابَ واستغفرَ صُقِلَ قلبُهُ وإن زادَ زادَت حتّى تعلوَ قلبَهُ فذلِكُمُ الرّانُ الَّذي ذَكَرَ اللهُ تعالى (كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أخرجه الترمذي (3334) وحسَّنه الألباني.
رابعًا: التوسعُ في المباحات، والانغماسُ في الملذات، والتزودُ من الكماليات، فإنَّ البطونَ إذا امتلأتْ نامتْ الفِكْرَةُ، وقعدتْ الجوارحُ عن الخدمةِ، وقد تجشَّأ رجلٌ عند النبيِّ ﷺ ، فقال ﷺ: (كُفَّ عنَّا جُشاءَكَ فإنَّ أكثرَهُم شِبعًا في الدنيا أطولُهم جوعًا يومَ القيامةِ) أخرجه الترمذي (٢٤٧٨) وابن ماجه (٣٣٥٠) وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 4491).
عبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} الأنفال: [1]، وَأَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ وبينَ ربِّكُمْ، يُصْلِحُ لكم أعمالَكم، واشكروهُ على ما أَنْعَمَ به على هذهِ البلادِ من اجتماعِ الكلمةِ، ووحدةِ الصفِّ، وتحكيمِ الشَّرْعِ، وحِفْظِ الأمنِ.
واعلمُوا أنَّ مِن تمام شُكْرِ هذهِ النِّعْمَةِ: لُزُومُ جماعةِ المسلمينَ وإمامِهِم، فقد تَقَرَّرَ عِنْدَ أهلِ السُّنةِ أنَّه لا دينَ إلا بجماعةٍ، ولا جماعةَ إلا بإمامةٍ، ولا إمامةَ إلا بطاعةِ، قالَ ﷺ: (مَن خَلَعَ يَدًا مِن طاعَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَومَ القِيامَةِ لا حُجَّةَ له، وَمَن ماتَ وَليسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً) أخرجه مسلم (1851).
واحذروا من الأبواقِ الإعلاميةِ الصَّاخِبَةِ، والصَّيْحَاتِ الكاذبةِ، والشَّعَاراتِ الفَارغةِ والحزبياتِ المقيتةِ، التي تُغرّرُ بالشبابِ، وتُفسِدُ في البلاد، بترويع أهلها، ونَهْبِ ثرواتها، وإفسادِ معتقداتِهَا، وكونوا صَمَّامَ أمانٍ في وجوهِ هؤلاءِ الشِّرْذمةِ، وعَوْنًا لأوْطَانِكُمْ.
وأكثروا من الدعاءِ لولاة الأمرِ، ففي صلاحِهِمْ صلاحُ البلادِ والعبادِ، وحافظوا على مكتسباتِ الوطنِ، وممتلكاتِهِ.
أسألُ اللهَ أن يحفظَ علينَا دينَنَا، وأمْنَنَا، وعلمائَنَا، وولاةَ أمرِنَا، وأن يُجِيرَ قلوبَنا من القسوةِ، ويُجَنّبنا الغفلة..
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 10-4-1444هـ