قسوة القلب في رمضان

هلال الهاجري
1446/09/12 - 2025/03/12 17:23PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .. أَمَّا بَعْدُ:

عَنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ)، سبحانَ اللهِ .. قِطعةُ لحمٍ هي أساسُ الصَّلاحِ والفَسادِ، يُعرفُ بها مِقدارُ إيمانِ العبادِ، هي محلُ نظرِ اللهِ تعالى لِلخَلائقِ، فماذا سيرى اللهُ فِيهَا مِنَ الحَقائقِ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ).

أخبروني يا عبادَ اللهِ .. هل تجدونَ ما أجدُ في هذا الزَّمانِ من قسوةِ القلبِ؟، هل تُحسِّونَ بما أُحسُّ بهِ من ضعفِ المراقبةِ والخشيةِ؟، أينَ القلوبُ التي تخافُ من الذُّنوبِ؟، أينَ الدُّموعُ التي تنهمرُ مع الخشوعِ؟، أينَ السَّعادةُ التي كنَّا نجدُها في العبادةِ؟، أينَ الاطمئنانُ في قِراءةِ القُرآنِ؟، أينَ قُرَّةُ العينِ التي تُذكرُ عندَ المُصلِّينَ؟، أينَ ما يشعرُ بهِ أهلُ الصَّلاحِ من الرَّاحةِ والانشراحِ؟، بل ها قد دخلَ رمضانُ فأينَ الجِدُّ في العملِ والإحسانِ؟، أم قد أصابنا داءُ بني إسرائيلَ كما قالَ تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)، ولقد توعَّدَ اللهُ أصحابَ هذه القلوبِ: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ).

فما الذي أصابَ قلوبَنا حتى قَستْ هذه القسوةَ، وأصبحَ بينَها وبينَ التَّلذُّذِ بالعباداتِ جَفوةٌ، هل هو حبُّ الدُّنيا وحطيمِها؟، هل هو الانغماسُ في العاجلةِ ونعيمِها؟، هل هو قِلةُ ذكرِ اللهِ تعالى واليومِ الآخِرِ؟، هل هو احتقارُ النَّاسِ والكِبرُ والتَّفاخرُ؟، أم هو ما نراهُ من استقبالِ رمضانَ بأنواعِ الطَّعامِ؟، أو هو الاعلاناتُ عن شهرٍ مليءٌ بالمسلسلاتِ والأفلامِ؟، تعدَّدتْ الأسبابُ والنتيجةُ واحدةٌ: قسوةُ القُلوبِ، في شهرٍ خابَ من لم يغفرْ له علَّامُ الغيوبِ؟، ولكن اسمع معي لهذا العِلاجِ:

يَقولُ ابنُ القَيِّمِ رحمَه اللهُ تَعالى: (دواءُ القلبِ خمسةُ أشياءٍ: قراءةُ القرآنِ بالتَّدَّبرِ، وخلاءُ البطنِ، وقيامُ الليلِ، والتَّضَّرعُ بالأسحارِ، ومجالسةُ الصَّالحينَ)، ثُمَّ قَالَ:

دواءُ قلبِكَ خَمسٌ عندَ قسوتِه *** فدُم عليها تَفُزْ بالخيرِ والظَّفَرِ

خلاءُ بَطن ٍ وقُرآن ٌ تدبَّرُهُ *** كذا تَضَّرعُ باكٍ سَاعةَ السَّحرِ

كذا قِيامُك جُنحَ اللَّيل ِ أَوسطُهُ *** وأن تُجالسَ أهلَ الخَيرِ والخَبرِ

وسبحانَ اللهِ .. هذه الأشياءُ أكثرُ ما تجتمعُ في رمضانَ، شهرُ الخيرِ والبركاتِ والرَّحمةِ والغُفرانِ.

أما خلاءُ البطنِ فإنَّه يتحقَّقُ بالصِّيامِ في النَّهارِ، ويجتمعُ له دواءُ القلبِ وتكفيرُ الخطايا والأوزارِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، عبادةٌ عظيمةٌ تُداوي القلوبَ المُتحجِّرةَ، وينفعُ اللهُ تعالى بها في الدُّنيا والآخرةِ، فعَنْ أَبي أُمَامةَ البَاهِليِّ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ).

وأما قيامُ اللَّيلِ فيتحقَّقُ في رمضانَ المُباركِ، وهو دواءٌ لقلبٍ تشعَّبتْ به المسالكُ، وتغفرُ به ذنوبٌ قد تؤدي بصاحبِها إلى المهالكِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، فهل يَستوي ليلُ من قضاهُ بينَ السَّهراتِ والفضائياتِ غافلاً، وفي القِيلِ والقَالِ وضياعِ الأوقاتِ هائمًا، وبينَ ليلِ من قضاهُ ساجداً وراكعاً وقائماً، يَدعو ربَّه تعالى ويبكي من خَشيةِ اللهِ جلَّ وعلَّا خائفاً، (أَمْ مَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، لا واللهِ لا يستوون.

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن مُحمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه أجمعينَ، وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:

ثُمَّ يختمُ قيامَه بالاستغفارِ، والتَّضرعِ بالأسحارِ، وهو علاجٌ نافعٌ لقلوبٍ كالأحجارِ، قالَ تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

إذَا مَا الَّليلُ أظلَمَ كَابَدُوه *** فيسفرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ

أطَارَ الخَوفُ نومَهُم فَقَامُوا *** وَأهلُ الأمنِ فِي الدُنَيا هُجُوعُ

لَهُم تَحتَ الظَّلامِ وَهُمْ سُجُودٌ *** أنِينٌ مِنهُ تَنفَرجُ الضُّلُـوعُ

فأما العلاجُ الرَّابعُ لعلاجِ القلوبِ التي لا تلينُ، هو مجالسةُ الأخيارِ والصَّالحينَ، كيفَ لا، وقد أُمرَ نبيُّنا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بمجالستِهم والصَّبرِ مع الدَّاعينَ، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، وتجدُهم في رمضانَ في المساجدِ، ما بينَ تالٍ للقرآنِ وراكعٍ وساجدٍ، حديثُهم يبعثُ الأملَ والسُّرورَ، ووجوهُهم قد زانتْ بالنَّضرةِ والنُّورِ، ومجالسُهم تحفُّهُا ملائكةُ الرَّحيمِ الغفورِ.

وأما تدَّبرُ القرآنِ بحيثُ يشتركُ فيه القلبُ مع العيونِ، فإن لم يكن في شهرِ القرآنِ فمتى يكونُ؟، ولا يوجدُ أعظمُ شفاءً للقلوبِ التي في الصُّدورِ، من تلاوةِ وتدَّبرِ هذا الكتابِ الذي في السُّطورِ، قالَ تعالى: (قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ)، ثُمَّ إذا شفاهُ من أمراضِه وألانَه من قسوتِه، ثبَّتَه على طريقِ الحقِّ وأيقظَه من غفلتِه، (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)، فاعتذرْ لكتابِ اللهِ تعالى من طولِ الهِجرانَ، وافتحْ معه صفحةً جديدةً في رمضانَ.

فَهَذهِ خَمسَةُ أَدويةٌ لِلقُلُوبِ القَاسيةِ قَد اجتَمَعَتْ فِي رَمَضَانَ، فَهَل سَنخرجُ مِنهُ بِقُلُوبٍ لَيَّنَةٍ مَليئةٌ بِالخَشيَةِ والإيمانِ؟.

اللهمَّ إنا نسألُك أن تحييَ قلوبَنا بذكرِك يا ربَّ العالمينَ، اللهم إنا نسألُك أن تغفرَ ذنوبَنا كلَّها دِقَّها وجِلَّها، سِرَّها وعلانيتَها، اللهم إنا نسألُك قرةَ عينٍ لا تنقطعُ، ونسألُك لذةَ النظرِ إلى وجهِك والشوقِ إلى لقائك يا ربَّ العالمينَ، آمنا في الأوطانِ والدورِ، وأصلح الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، اللهم إنا نسألُك الرحمةَ لإخوانِنا المسلمينَ، اللهم ارفع عنهم البلاءَ يا سميعَ الدعاءِ، كُنْ معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وأعنهم ولا تُعن عليهم، نسألُك لإخوانِنا المستضعفينَ في ساعتِنا هذه النصرَ والتمكينَ إنك على كلِّ شيءٍ قديرٍ وبالإجابةِ جديرٍ، والحمدُ للِه ربِّ العالمينَ.

المرفقات

1741789409_قسوة القلب في رمضان.docx

1741789420_قسوة القلب في رمضان.pdf

المشاهدات 1058 | التعليقات 0