قدر الصلاة عند النبي عليه الصلاة والسلام

عَمُودُ الإِسْلاَمِ (9)
قَدْرُها عِنْدَ النَّبِيِّ
30/6/1434

الحَمْدُ للهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ، الغَفُورِ الرَّحِيمِ؛ عَلِمَ ضَعْفَ عِبَادِهِ وَعِصْيَانَهُمْ فَشَرَعَ لَهُمْ مِنَ العِبَادَاتِ مَا يُكَفِّرُ ذُنُوبَهُمْ، وَيَمْحُو خَطَايَاهُمْ، وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ عَظَّمَ أَمْرَ الصَّلاَةِ فَجَعَلَهَا صِلَةَ العَبْدِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَفَرَضَهَا مِنْ فَوْقِ سَمَوَاتِهِ، وَخَاطَبَ بِهَا نَبِيَّهُ، وَلاَ عَظِيمَ إِلاَّ مَا عَظَّمَهُ، وَلاَ شَرْعَ إِلاَّ مَا شَرَعَهُ؛ [صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] {البقرة:138}، وَأَشْهَُد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عَلِمَ قَدْرَ الصَّلاَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَاحْتَفَى بِهَا، وَعَظَّمَ شَأْنَهَا، وَرَفَعَ قَدْرَهَا، وَغَرَسَ فِي أُمَّتِهِ العِنَايَةَ بِهَا؛ فَكَانَ كَثِيرَ الصَّلاَةِ، وَكَانَ يُطِيلُهَا فَيَقْرَأُ طِوَالَ السُّوَرِ فِيهَا، وَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ فِي صَلاَتِهِ لاَ يُطِيقُهَا، فَمَنْ يُطِيقُ أَنْ يَقِفَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَإِيَّاكُمْ وَتَضْيِيعَ فَرَائِضِهِ، وَالاسْتِهَانَةَ بِأَوَامِرِهِ؛ فَإِنَّ فَوْزَ العَبْدِ مَنُوطٌ بِهَا، وَعُلِّقَ خُسْرَانُهُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِيهَا؛ [وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] {النساء:14}.
أَيُّهَا النَّاسُ: إِذَا كَثُرَتِ النُّصُوصُ فِي عِبَادَةٍ مِنَ العِبَادَاتِ، وَتَكَرَّرَ فِعْلُهَا كَثِيرًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْزِلَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهَا فِي شَرِيعَتِهِ، وَأَهَمِّيَّتِهَا فِي صَلاَحِ عِبَادِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الصَّلاَةِ وَجَدَهَا أَكْثَرَ العِبَادَاتِ تَكْرَارًا، وَأَغْزَرَهَا نُصُوصًا، وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ تَنَوُّعًا كَثِيرًا؛ فَفِيهَا فُرُوضُ عَيْنٍ كَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَالجُمُعَةِ، وَفِيهَا فُرُوضُ كِفَايَةٍ كَصَلاَةِ الجَنَائِزِ، وَفِيهَا سُنَنٌ مُؤَكَّدَةٌ كَالكُسُوفِ وَالتَّرَاوِيحِ، وَكَمَا أَنَّ فِي الصَّلَوَاتِ أَنْوَاعًا جَمَاعِيَّةً، فَفِيهَا أَيْضًا أَنْوَاعٌ فَرْدِيَّةٌ كَتَحِيَّةِ المَسْجِدِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَسُنَّةِ الطَّوَافِ وَالاسْتِخَارَةِ وَغَيْرِهَا، هَذَا غَيْرُ النَّفْلِ المُطْلَقِ، وَالصَّلاَةُ مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ.
وَأَمَّا النُّصُوصُ فِيهَا فُذِكِرَتِ الصَّلاَةُ فِي القُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ مَرَّةً، وَفِي السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمَنْ قَرَأَ قَصَصَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ فِي القُرْآنِ وَجَدَ الصَّلاَةَ حَاضِرَةً فِي شَرَائِعِهِمْ، مَذْكُورَةً فِي أَحْوَالِهِمْ، وَكَأَنَّهَا لاَ تَنْفَكُّ عَنْهُمْ، وَمَا رُتِّبَ مِنَ العُقُوبَاتِ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ أَوْ تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا لَمْ يُرَتَّبْ مِثْلُهُ عَلَى تَرْكِ غَيْرِهَا مِنَ العِبَادَاتِ؛ حَتَّى كَانَ تَرْكُ الصَّلاَةِ بِالكُلِّيَّةِ كُفْرًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالحَجِّ رَغْمَ أَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ.
كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الصَّلاَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَفَخَامَةِ شَأْنِهَا، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهَا، ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى اهْتِمَامِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِالصَّلاَةِ المَفْرُوضَةِ وَجَدْنَا أَنَّهُ اهْتِمَامٌ يُوَازِي مَنْزِلَتَهَا فِي النُّصُوصِ.
كَانَتِ الصَّلاَةُ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ الفَرَائِضِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي مَكَّةَ، حَتَّى حَلَفَ أبُو جَهْلٍ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى لَيَطَأَنَّ رَقَبَتَهُ، أَوْ لَيُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ بِالتُّرَابِ إِنْ رَآهُ يُصَلِّي، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى حَمَى نَبِيَّهُ بِجُنْدٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إِذَا صَلَّوْا، ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ، فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ.
وَلَمَّا فُرِضَتِ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ، كَثُرَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِيهَا، وَكَثُرَ فِعْلُهُ لَهَا، وَبِمُطَالَعَةِ أَبْوَابِ الصَّلاَةِ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ نُدْرِكُ هَذِهِ الكَثْرَةَ قَوْلًا وَفِعْلاً، وَيَظْهَرُ لَنَا حِرْصُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى الصَّلاَةِ، حَتَّى مَا تَرَكَهَا وَلاَ رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا لاَ فِي حَضَرٍ وَلاَ سَفَرٍ، وَلاَ فِي سِلْمٍ وَلاَ حَرْبٍ، وَلاَ فِي أَمْنٍ وَلاَ خَوْفٍ، وَلاَ فِي صِحَّةٍ وَلاَ مَرَضٍ، وَلاَ فِي قُدْرَةٍ وَلاَ عَجْزٍ، بَلْ يَأْمُرُ بِهَا فِي كُلِّ الأَحْوَالِ فَيُصَلِّيهَا المُؤْمِنُ عَلَى حَسْبِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَيَأْتِي بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وَلَكِنْ لاَ يَتْرُكُهَا أَبَدًا مَا دَامَ عَقْلُهُ مَعَهُ، وَلاَ يُجْزِئُ شَيْءٌ عَنِ الصَّلاَةِ، وَلاَ تُغْنِي عَنْهَا النِّيَابَةُ وَلاَ الجَبْرُ وَلاَ الكَفَّارَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الصِّيَامِ وَالحَجِّ.
وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لاَ يَنَامُ حَتَّى يَسْتَوْثِقَ مِنَ اسْتِيقَاظِهِ لِلصَّلاَةِ يَخَافُ أَنْ يَفُوتَ وَقْتُهَا؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاَة، قَالَ بِلاَلٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ...»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا»، وَفِي حَادِثَةٍ أُخْرَى قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ لَا نَرْقُدُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ؟ " فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا...»؛ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
وَنَامُوا مَرَّةً فِي سَفَرٍ فَلَمْ يُوقِظْهُمْ إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ، وَتَحَسَّرَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أَجْرِ الصَّلاَةِ وَخَافُوا الإِثْمَ، رَغْمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتْعَبِينَ جِدًّا، وَقَدْ حَرِصُوا عَلَى الاسْتِيقَاظِ لَكِنْ ضُرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ، فَطَمْأَنَهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّطُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالارْتِحَالِ عَنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي فَاتَتْهُمُ الصَّلاَةُ فِيهِ فَقَالَ: «تَحَوَّلُوا عَنْ مَكَانِكُمُ الَّذِي أَصَابَتْكُمْ فِيهِ الْغَفْلَةُ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَخَذَ العُلَمَاءُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ غَفْلَةٌ فِي مَكَانٍ عَنْ عِبَادَةٍ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّحَوُّلُ مِنْهُ.
وَظَلَّ الحِرْصُ عَلَى الصَّلاَةِ حَاضِرًا فِي أَقْوَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَفِي أَفْعَالِهِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنْ حَيَاتِهِ، وَلَمَّا ثَقُلَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ المَرَضِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ لاَ يَسْأَلُ إِلاَّ عَنِ الصَّلاَةِ، وَهَاكُمْ خَبَرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الحَدِيثِ العَجِيبِ؛ لِنَعْلَمَ أَهَمِّيَّةَ الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَة والسلام، قالتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:«ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ. قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ، قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِصَلاَةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ... فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا العَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ بِهَذَا الحَدِيثِ لَمَّا تَذَاكَرُوا عِنْدَهَا المُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، أَرَادَتْ أَنْ تَبِينَ قَدْرَ الصَّلاَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فِي شِدَّةِ مَرَضِهِ.
لِنَتَأَمَّلْ هَذَا الحَدِيثَ جَيِّدًا، فَفِيهِ يُغْمَى عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلِّ إِفَاقَةٍ لَهُ لاَ يَكُونُ سُؤَالُهُ إِلاَّ «أَصَلَّى النَّاسُ؟»، وَيَتَوَضَّأُ وَهُوَ ثَقِيلٌ مَرِيضٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ المَفْرُوضَةَ مَعَهُمْ حَتَّى أَيْقَنَ بِثَلاَثِ تَجَارِبَ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ فَوَكَّلَ أَبَا بَكْرٍ بِذَلِكَ، وَبَعْدَ أَيَّامٍ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ لِلظُّهْرِ يُصَلِّي مَعَهُمْ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا مِنْ ثِقَلِ مَرَضِهِ.
فَوَاللهِ لاَ يُفَرِّطُ فِي الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةِ، وَلاَ يَتَهَاوَنُ بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ بَعْدَ هَذَا الحَدِيثِ إِلاَّ مَخْذُولٌ مَحْرُومٌ.
هَذَا فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ الَّذِي وَدَّعَ بِهِ الأُمَّةَ حِينَ غَرَسَ فِي وِجْدَانِهَا أَهَمِّيَّةَ الصَّلاَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَالصَّلاَةُ آخِرُ وَصِيَّتِهِ، وَغَرْغَرَ بِهَا وَهُوَ يَلْفِظُ أَنْفَاسَهُ؛ فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: «الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا، حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ»؛ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ:«حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ»، وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»؛ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهَا كَانَتْ آخِرَ وَصِيَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ آخِرَ كَلاَمِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ.
وَمَنْ طَالَعَ أَحَادِيثَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَجَدَ تَضَافُرَ الَأحَادِيثِ وَالرِّوَايَاتِ عَلَى عِنَايَتِهِ بِالصَّلاَةِ، وَأَنَّهُ أَوْصَى بِهَا وَكَرَّرَ ذَلِكَ، وَفَاضَتْ رُوحُهُ وَهُوَ يُوصِي بِهَا، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ تَعَالَى وَبِمَا يُرْضِيهِ، وَهُوَ أَنْصَحُ الخَلْقِ لِلْخَلْقِ، فَلاَ نَظُنُّ إِلاَّ أَنَّهُ أَوْصَى بِأَهَمِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمِهِ وَأَكْبَرِهِ، فَمَنْ يُفَرِّطُ فِي وَصِيَّتِهِ بَعْدَ هَذَا؟!
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ، وَالمُحَافَظِةِ عَلَى فَرَائِضِهِ، وَالانْتِهَاءِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ [وَأَقِيمُوا الصَّلاَة وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] {البقرة:43}.
أَيُّهَا النَّاسُ: مَنْ نَظَرَ فِي وَاقِعِ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ اليَوْمَ يَجِدُ تَفْرِيطًا كَثِيرًا فِي الصَّلاَةِ رَغْمَ أَنَّهَا رُكْنُ الإِسْلامِ الأَعْظَمُ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَنَامُونَ عَنْ صَلاَةِ الفَجْرِ وَيَسْتَيْقِظُونَ لِدِرَاسَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا دَأْبُهُمْ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِمْ لاَ يُصَلُّونَ الفَجْرَ إِلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلاَ سِيَّمَا مَعَ السَّهَرِ، وَقِلَّةِ الحِرْصِ عَلَى الصَّلاَةِ، وَمَعَ قِصَرِ اللَّيْلِ وَطُولِ النَّهَارِ، حَتَّى اسْتَوْحَشَتِ المَسَاجِدُ فِي الفَجْرِ مِنْ قِلَّةِ المُصَلِّينَ فِيهَا، فَيَا لِلْخُسْرَانِ العَظِيمِ لِمَنْ ضَيَّعَ الفَجْرَ وَهِيَ الصَّلاَةُ المَشْهُودَةُ؛ [إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] {الإسراء:78}، وَبَعْضُهُمْ يُضَيِّعُ الصَّلاَةَ المَشْهُودَةَ الأُخْرَى، وَهِيَ الصَّلاَةُ الوُسْطَى صَلاةُ العَصْرِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلاَة الوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ] {البقرة:238}.
وَمَنْ كَانَ يَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ فَعُقُوبَتُهُ فِي القَبْرِ أَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بِالحِجَارَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا، فَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟!
إِنَّ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا تَزُولُ، وَلاَ يَزُولُ أَثَرُ الصَّلاَةِ وَثَوَابُهَا؛ وَلِذَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنَيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَقَدْ نُزِعَ مُلُوكٌ مِنْ عُرُوشِهِمْ، وَزَالَتْ مَمَالِكُ وَانْدَثَرَتْ، وَمَاتَ أَثْرِيَاءُ تَمَنَّى النَّاسُ بَعْضَ ثَرَوَاتِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِلاَّ عَمَلُهُ فَقَطْ، وَصَلَاتُهُ مِنْ أَهَمِّ عَمَلِهِ، بَلْ هِيَ أَهَمُّ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ...»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَنَحْنُ نَرَى المَوْتَ يَتَخَطَّفُ النَّاسَ فِي غَرَقٍ أَوْ حَوَادِثَ سَيَّارَاتٍ، أَوْ جَلَطَاتٍ دِمَاغِيَّةٍ، أَوْ سَكَتَاتٍ قَلْبِيَّةٍ.
وَالحَوَادِثُ الكَوْنِيَّةُ مِنْ زَلاَزِلَ وَفَيَضَانَاتٍ وَنَحْوِهَا تَلْتَهِمُ جُمُوعًا مِنَ البَشَرِ، وَأَصْحَابُ القُلُوبِ الحَيَّةِ إِنْ رَأَوْا مَوْتَ الفَجْأَةِ لاَ يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ تَمَنِّي أَنَّ مَنْ مَاتَ فِيهَا كَانُوا مِنَ المُحَافِظِينَ عَلَى الصَّلاَةِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَكَانَتِهَا فِي شَرِيعَةِ اللهِ تَعَالَى.
فَيَا أَيُّهَا المُفَرِّطُونَ فِي الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ، وَيَا مَنْ يَنَامُونَ عَنْ صَلاَةِ الفَجْرِ أَوِ العَصْرِ: تَعِدُونَ أَنْفُسَكُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلاَةِ وَتُؤَجِّلُونَ، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ المَوْتَ يَتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَمَنْ يُؤَمِّنُكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي عِدَادِ الأَمْوَاتِ قَرِيبًا؛ فَإِنَّ المَوْتَ قَدْ خَطَفَ شَبَابًا وَأَطْفَالاً، وَخَطَفَ أَصِحَّاءَ أَقْوِيَاءَ، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ طُولُ الأَمَلِ، وَاكْتِمَالُ النِّعَمِ، وَتَمَامُ الصِّحَّةِ؛ [فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ] {فاطر:5} ..
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

عمود الإسلام 9.doc

عمود الإسلام 9.doc

عَمُودُ الإِسْلاَمِ 9.doc

عَمُودُ الإِسْلاَمِ 9.doc

المشاهدات 4443 | التعليقات 4

جزاك الله خيرا شيخنا على هذه الخطبة الطيبة


نفع الله بك الأمة


خطبة مفيده وتوقيتها مناسب

واعتزم أن تكون هي خطبة هذا الأسبوع بإذن الله

فنفع الله بك يا شيخ إبراهيم لما تقدمة وما تطرحه من مواضيع

وقد استفدت كثير من الخطب التي تطرحها

فجزاك الله خيرا ونفع بك وبارك في جهودك

ولا أنسى القائمين على هذا الموقع والمشاركين فيه

فقد استفدت منهم كثيرا


جزاك الله كل خير


الإخوة الكرام: خطيب وعبد الله وشبيب.
أشكركم على مروركم وتعليقكم على الخطبة وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم ويجزيكم خيرا.