قتنة الجاه والسلطان من سورة الكهف
إبراهيم بن سلطان العريفان
1436/06/14 - 2015/04/03 08:11AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
إخوة الإيمان والعقيدة ... عودًا لما بدأنا به الحديث عن سورة الكهف. تلك السورة العظيمة – وسور القرآن كلها عظيمة – هذه السورة التي تحدثت عن أربع من الفتن العظيمة وكيف الخلاص والنجاة منها! الفتنة في الدين وضرب الله لها مثلا في أصحاب الكهف. والفتنة في المال وضرب الله لها مثلا في صاحب الجنتين. والفتنة في العلم وضرب الله لها مثلا في قصة موسى مع الخضر. وقد مضى الحديث عن هذه الأمور الثلاثة.
واليوم يكون الحديث عن فتنة الجاه والسلطان. وقد ضرب الله لها مثلا في قصة ذي القرنين.
ذلك الفاتح المسلم العظيم الذي فتح الدنيا بحذافيرها، ومع ذلك لم ينس فضل الله تعالى عليه. فذو القرنين ملحمة إيمانية كبرى تصب في نفوس المؤمنين روح التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في تسخير الأرض، وهو نموذج فريد للإمام العادل الذي لم يورثه ملكُه تكبرًا وغرورًا وتجبرًا في الأرض، وإنما زاده تواضعًا وتضحية في سبيل نشر العدل والرحمة بين الخلق جميعًا.
وهذا النموذج الراقي الذي ينبغي على عموم الأمة أن تعيه في إعادة الحياة إلى الدول التي سيطر عليها الفساد عقودًا طويلة، فدولة الإيمان والعلم التي سيطرت على حياتنا -نحن المسلمين- على مدار أربعة عشر قرنًا ينبغي أن يبزغ نجمها وتبعث من رقادها من جديد لتضع النموذج الأكمل الذي يحتذي به العالم من حولها.
إن ذا القرنين علامة بارزة من علاماتٍ وضعها القرآن في طريق الحكام؛ ليدركوا طبيعة الحكم وحقوق المحكومين، وكيفية التعامل مع الظالمين في المجتمع والمحسنين وطبيعة الصراع بينهم، وضرورة رد الأمر في إنجازات الحكام إلى الله وحده.
عندما فتح الله لذي القرنين البلاد، وتمكّن من التصرف في أهلها، لم يستغل منصبه لأكل أموال الناس بالباطل، ولم يظلم ولم يطغَ ولم يتجبر، ولم يعتبرها مناسبة للبطش والبغي والفساد. لكنه وضع ورسم دستورًا ومنهجًا في التعامل مع أولئك القوم، وضع منهجًا لكل من أعطاه الله شيئًا من التمكين وشيئًا من التصرف في عباد الله.
عباد الله ... (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ) ذو القرنين عبدٌ من عباد الله الصالحين، توقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في نبوته فقال ( وما أدري ذا القرنين كان نبياً أم لا ) ونحن نتوقف في نبوته كما توقف نبينا صلى الله عليه وسلم.
لقد أعطاه الله ملكاً عظيماً؛ حيث أدان له البلاد، وأخضع له العباد، فحكم الأرض بأسرها، فكان ملِكاً على الدنيا كلها، وخدَمَتْه الأمم بأجناسها وأشكالها، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس مشرقها وغربها؛ ولهذا سمي بذي القرنين.
( قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) الذي مكن له في الأرض هو الله، فهو الذي يُمكن للدول والأمم والحكام. فلا يسود حاكم إلا بإذن الله، ولا يزول حاكم إلا بإذن الله؛ فيجب أن تتعلق قلوبنا بملك الملوك جل جلاله ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
لقد مكن الله لذي القرنين في الأرض فأعطاه قوة في شخصيته، وقوة في عقله وأخلاقه وجيشه وماله ما يجعله أهلاً للوصول إلى ما وصل إليه من الملك والحكم والتمكين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا )
لقد آتاه الله من كل شيء سبباً؛ فلم يتوان ويتكاسل ويتواكل؛ وإنما بذل الأسباب التي تحقق له هدفه وتوصله إلى مراده ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) هنا بدأ ذو القرنين رحلته الأولى في سبيل الله متجهاً نحو المغرب ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) أبصر الشمس تغرب في ( عينٍ حمِئَةٍ ) في طينة سوداء، والمعنى أنه رأى الشمس تغرب في البحر.
وهناك، في ذلك المكان، وجد ذو القرنين أمة عظيمة من الأمم ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) كان هؤلاء القوم لا يؤمنون بالله، ولا يدينون دين الحق، فأمره الله بدعوتهم وتعليمهم، ثم خيّره فيمن أعرض عن الدين ولم يذعن لرب العالمين إما أن يعذبهم بالقتل وإما أن يتخذ فيهم حسنا وذلك بالأسر، فماذا قال ذو القرنين؟ ( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) وهذا غاية العدل، وقمة الإنصاف، ودليل الحكمة والحنكة والسياسة والتمكين.
( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) وهنا يبدأ ذو القرنين رحلته الثانية متجهاً من المغرب إلى المشرق ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) وجد الشمس تطلع على قوم لا يحول بينهم وبين الشمس شيء، ولا يحميهم من حرارتها وأشعتها شيء، فلا جبال تحجب عنهم الشمس، ولا بيوتاً تحول بينهم وبين الشمس، ولا يملكون ما يغطون به أجسادهم من حرارة الشمس ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) علمنا بما لديه من الخبرات، وما عنده من الصلاحيات ما يجعله أهلاً لذلك الملك، وتلك المكانة الرفيعة.
( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) وهنا يبدأ الحديث عن الرحلة الثالثة لذي القرنين، فالرحلة الأولى كانت إلى جهة المغرب، والرحلة الثانية كانت إلى جهة المشرق، وأما هذه الرحلة فإنها معترضة بين المشرق والمغرب ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) وهما جبَلان عظيمان متقابلان ( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) وجد في ذلك المكان قوماً منعزلين على أنفسهم لم ينفتحوا على غيرهم، ولا يفقهون لغة غير لغتهم، وصفهم الله جل جلاله ( قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) كانوا يعيشون بين هذين السدين أو الجبلين، وكانت بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج: أمتان عظيمتا الخطر، كثيرتا العدد، كانوا يخرجون على هؤلاء القوم من هذه الثغرة التي بين الجبلين فيفسدون أرضهم، ويهلكون حرثهم ونسلهم، وكانوا يتعرضون لأعنف الهجمات وأقوى الضربات من قبلهم وهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم، فلما رأوا ذا القرنين انطلقوا إليه وقاموا وقوفاً بين يديه، فتوسلوا إليه ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) يقينا بطشهم، ويحمينا من شرهم.
فرد عليهم بكل زهد وأدب وورع ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ما أعطاني الله من وسائل الملك وأسباب التمكين خير لي مما تجمعون، فلا حاجة لي في مالكم.
فلمح ذو القرنين فيهم العجز والكسل والاتكالية على غيرهم في حل مشاكلهم؛ فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم والعمل الضخم، فقال لهم ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) أخبرهم أنه سيتكفل لهم بهذا المشروع من الناحية المادية، ولكنه في حاجة إلى الأيدي العاملة لتشارك في إنجاز هذا البناء العظيم.
وللأسف يا أمة الإسلام ... يوجد من شبابنا قعودًا في البيوت ينتظرون مد يد أهل الخير والجمعيات الخيرية ... ولا يسعون في البحث عن العمل لسد حاجتهم المعيشية والحياتية .. وإن من الواجب على أهل الخير البحث والمساعدة في توظيف العاطلين والبطالة ...
سائلاً المولى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أِرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... إن الناس حينما اشتكوا إلى ذي القرنين فقالوا ( يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) استمع إلى شكوتهم، وسارع إلى نجدتهم؛ فأسكن لوعتهم، وأمَّن خوفهم، وأقام السد الذي يحول بينهم وبين هؤلاء المجرمين، وبناه لهم بكل دقة وإتقان، ولم يأخذ على ذلك عوضاً.
لقد تكفل ذو القرنين بهذا المشروع من الناحية المادية، وشاركه القوم بأيدي العاملة في إنجاز هذا السد العظيم.
شرع ذو القرنين في البناء بعدما خطط له تخطيطاً رائعاً، وهندسَهُ هندسة بارعة، فبدأ في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع فقال ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي: أجمعوا لي قطع الحديد الضخمة، فلما جمعوها أمرهم بوضعها بين السدين، فلما وضعوها ( قَالَ انْفُخُوا ) أشعلوا النيران تحت هذه القطع من الحديد لتصهر النار الحديد، ولك أن تتخيل هذه النيران التي اشتعلت لتصهر هذه الأطنان الضخمة من الحديد التي لا يعلم وزنها وحجمها إلا العزيز الحميد، فلما اشتعلت النيران في الحديد ذاب وانصهر.
وفي المرحلة الثانية من مراحل إنجاز هذا المشروع (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) فأمرهم أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر، فلما انصهر أمرهم بصبه على الحديد فاختلط النحاس المذاب بالحديد المذاب فصار معدناً واحداً، فكان بناءً قوياً، وسداً منيعاً ساوَى به بين هذين الصدفين أو الجبلين؛ وبذلك يكون قد سدَّ على يأجوج ومأجوج هذه الثغرة التي ينفذون منها إلى هذه الأمة المسكينة المغلوبة على أمرها ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) فلم يستطع قوم يأجوج ومأجوج أن يتسلقوا هذا السد أو ينقبوه ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ).
إن ذا القرنين نال ما نال من الملك والتمكين بسبب عبوديته لربه وافتقاره لخالقه، أنه كان متعلقاً بالله، متصلاً به، مُكثراً من ذكره وشكره؛ فقد تكررت منه كلمة "ربي" مرات عديدة في هذه الآيات القليلة.
إن الأرض أرض الله، وإن الخلق خلق الله، فتعساً لمن استغل منصبه أو كرسيه في محاربة الله، وظلم عباد الله، ومعاداة أولياء الله، يتنكب عن الصراط، ويتستر على الظلم والفساد!.
وهنيئاً لمن ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فأقام فيهم الشرع، ونشر بينهم العدل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به )
اللهم وفق خادم الحرمين الملك سلمان لنصرة الحق وإحياء السنة. اللهم بارك له في عمره وأصلح له بطانته وإخوانه وأعوانه. اللهم كن له عونًا ومعينًا. اللهم وفقه إلى ما تحب وترضى، واجعله سيفا على الظالمين، ونصيرا للمظلومين، وعونا للضعفاء والمساكين.
اللهم وفق قادة الدول العربية والإسلامية لما في صالح شعوبهم وبلدانهم. ووحد كلمتهم لما فيه خير. وأجمعهم على الخير، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
إخوة الإيمان والعقيدة ... عودًا لما بدأنا به الحديث عن سورة الكهف. تلك السورة العظيمة – وسور القرآن كلها عظيمة – هذه السورة التي تحدثت عن أربع من الفتن العظيمة وكيف الخلاص والنجاة منها! الفتنة في الدين وضرب الله لها مثلا في أصحاب الكهف. والفتنة في المال وضرب الله لها مثلا في صاحب الجنتين. والفتنة في العلم وضرب الله لها مثلا في قصة موسى مع الخضر. وقد مضى الحديث عن هذه الأمور الثلاثة.
واليوم يكون الحديث عن فتنة الجاه والسلطان. وقد ضرب الله لها مثلا في قصة ذي القرنين.
ذلك الفاتح المسلم العظيم الذي فتح الدنيا بحذافيرها، ومع ذلك لم ينس فضل الله تعالى عليه. فذو القرنين ملحمة إيمانية كبرى تصب في نفوس المؤمنين روح التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في تسخير الأرض، وهو نموذج فريد للإمام العادل الذي لم يورثه ملكُه تكبرًا وغرورًا وتجبرًا في الأرض، وإنما زاده تواضعًا وتضحية في سبيل نشر العدل والرحمة بين الخلق جميعًا.
وهذا النموذج الراقي الذي ينبغي على عموم الأمة أن تعيه في إعادة الحياة إلى الدول التي سيطر عليها الفساد عقودًا طويلة، فدولة الإيمان والعلم التي سيطرت على حياتنا -نحن المسلمين- على مدار أربعة عشر قرنًا ينبغي أن يبزغ نجمها وتبعث من رقادها من جديد لتضع النموذج الأكمل الذي يحتذي به العالم من حولها.
إن ذا القرنين علامة بارزة من علاماتٍ وضعها القرآن في طريق الحكام؛ ليدركوا طبيعة الحكم وحقوق المحكومين، وكيفية التعامل مع الظالمين في المجتمع والمحسنين وطبيعة الصراع بينهم، وضرورة رد الأمر في إنجازات الحكام إلى الله وحده.
عندما فتح الله لذي القرنين البلاد، وتمكّن من التصرف في أهلها، لم يستغل منصبه لأكل أموال الناس بالباطل، ولم يظلم ولم يطغَ ولم يتجبر، ولم يعتبرها مناسبة للبطش والبغي والفساد. لكنه وضع ورسم دستورًا ومنهجًا في التعامل مع أولئك القوم، وضع منهجًا لكل من أعطاه الله شيئًا من التمكين وشيئًا من التصرف في عباد الله.
عباد الله ... (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ) ذو القرنين عبدٌ من عباد الله الصالحين، توقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في نبوته فقال ( وما أدري ذا القرنين كان نبياً أم لا ) ونحن نتوقف في نبوته كما توقف نبينا صلى الله عليه وسلم.
لقد أعطاه الله ملكاً عظيماً؛ حيث أدان له البلاد، وأخضع له العباد، فحكم الأرض بأسرها، فكان ملِكاً على الدنيا كلها، وخدَمَتْه الأمم بأجناسها وأشكالها، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس مشرقها وغربها؛ ولهذا سمي بذي القرنين.
( قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) الذي مكن له في الأرض هو الله، فهو الذي يُمكن للدول والأمم والحكام. فلا يسود حاكم إلا بإذن الله، ولا يزول حاكم إلا بإذن الله؛ فيجب أن تتعلق قلوبنا بملك الملوك جل جلاله ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
لقد مكن الله لذي القرنين في الأرض فأعطاه قوة في شخصيته، وقوة في عقله وأخلاقه وجيشه وماله ما يجعله أهلاً للوصول إلى ما وصل إليه من الملك والحكم والتمكين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا )
لقد آتاه الله من كل شيء سبباً؛ فلم يتوان ويتكاسل ويتواكل؛ وإنما بذل الأسباب التي تحقق له هدفه وتوصله إلى مراده ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) هنا بدأ ذو القرنين رحلته الأولى في سبيل الله متجهاً نحو المغرب ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) أبصر الشمس تغرب في ( عينٍ حمِئَةٍ ) في طينة سوداء، والمعنى أنه رأى الشمس تغرب في البحر.
وهناك، في ذلك المكان، وجد ذو القرنين أمة عظيمة من الأمم ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) كان هؤلاء القوم لا يؤمنون بالله، ولا يدينون دين الحق، فأمره الله بدعوتهم وتعليمهم، ثم خيّره فيمن أعرض عن الدين ولم يذعن لرب العالمين إما أن يعذبهم بالقتل وإما أن يتخذ فيهم حسنا وذلك بالأسر، فماذا قال ذو القرنين؟ ( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) وهذا غاية العدل، وقمة الإنصاف، ودليل الحكمة والحنكة والسياسة والتمكين.
( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) وهنا يبدأ ذو القرنين رحلته الثانية متجهاً من المغرب إلى المشرق ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) وجد الشمس تطلع على قوم لا يحول بينهم وبين الشمس شيء، ولا يحميهم من حرارتها وأشعتها شيء، فلا جبال تحجب عنهم الشمس، ولا بيوتاً تحول بينهم وبين الشمس، ولا يملكون ما يغطون به أجسادهم من حرارة الشمس ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) علمنا بما لديه من الخبرات، وما عنده من الصلاحيات ما يجعله أهلاً لذلك الملك، وتلك المكانة الرفيعة.
( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) وهنا يبدأ الحديث عن الرحلة الثالثة لذي القرنين، فالرحلة الأولى كانت إلى جهة المغرب، والرحلة الثانية كانت إلى جهة المشرق، وأما هذه الرحلة فإنها معترضة بين المشرق والمغرب ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) وهما جبَلان عظيمان متقابلان ( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) وجد في ذلك المكان قوماً منعزلين على أنفسهم لم ينفتحوا على غيرهم، ولا يفقهون لغة غير لغتهم، وصفهم الله جل جلاله ( قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) كانوا يعيشون بين هذين السدين أو الجبلين، وكانت بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج: أمتان عظيمتا الخطر، كثيرتا العدد، كانوا يخرجون على هؤلاء القوم من هذه الثغرة التي بين الجبلين فيفسدون أرضهم، ويهلكون حرثهم ونسلهم، وكانوا يتعرضون لأعنف الهجمات وأقوى الضربات من قبلهم وهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم، فلما رأوا ذا القرنين انطلقوا إليه وقاموا وقوفاً بين يديه، فتوسلوا إليه ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) يقينا بطشهم، ويحمينا من شرهم.
فرد عليهم بكل زهد وأدب وورع ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ما أعطاني الله من وسائل الملك وأسباب التمكين خير لي مما تجمعون، فلا حاجة لي في مالكم.
فلمح ذو القرنين فيهم العجز والكسل والاتكالية على غيرهم في حل مشاكلهم؛ فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم والعمل الضخم، فقال لهم ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) أخبرهم أنه سيتكفل لهم بهذا المشروع من الناحية المادية، ولكنه في حاجة إلى الأيدي العاملة لتشارك في إنجاز هذا البناء العظيم.
وللأسف يا أمة الإسلام ... يوجد من شبابنا قعودًا في البيوت ينتظرون مد يد أهل الخير والجمعيات الخيرية ... ولا يسعون في البحث عن العمل لسد حاجتهم المعيشية والحياتية .. وإن من الواجب على أهل الخير البحث والمساعدة في توظيف العاطلين والبطالة ...
سائلاً المولى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أِرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... إن الناس حينما اشتكوا إلى ذي القرنين فقالوا ( يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) استمع إلى شكوتهم، وسارع إلى نجدتهم؛ فأسكن لوعتهم، وأمَّن خوفهم، وأقام السد الذي يحول بينهم وبين هؤلاء المجرمين، وبناه لهم بكل دقة وإتقان، ولم يأخذ على ذلك عوضاً.
لقد تكفل ذو القرنين بهذا المشروع من الناحية المادية، وشاركه القوم بأيدي العاملة في إنجاز هذا السد العظيم.
شرع ذو القرنين في البناء بعدما خطط له تخطيطاً رائعاً، وهندسَهُ هندسة بارعة، فبدأ في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع فقال ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي: أجمعوا لي قطع الحديد الضخمة، فلما جمعوها أمرهم بوضعها بين السدين، فلما وضعوها ( قَالَ انْفُخُوا ) أشعلوا النيران تحت هذه القطع من الحديد لتصهر النار الحديد، ولك أن تتخيل هذه النيران التي اشتعلت لتصهر هذه الأطنان الضخمة من الحديد التي لا يعلم وزنها وحجمها إلا العزيز الحميد، فلما اشتعلت النيران في الحديد ذاب وانصهر.
وفي المرحلة الثانية من مراحل إنجاز هذا المشروع (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) فأمرهم أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر، فلما انصهر أمرهم بصبه على الحديد فاختلط النحاس المذاب بالحديد المذاب فصار معدناً واحداً، فكان بناءً قوياً، وسداً منيعاً ساوَى به بين هذين الصدفين أو الجبلين؛ وبذلك يكون قد سدَّ على يأجوج ومأجوج هذه الثغرة التي ينفذون منها إلى هذه الأمة المسكينة المغلوبة على أمرها ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) فلم يستطع قوم يأجوج ومأجوج أن يتسلقوا هذا السد أو ينقبوه ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ).
إن ذا القرنين نال ما نال من الملك والتمكين بسبب عبوديته لربه وافتقاره لخالقه، أنه كان متعلقاً بالله، متصلاً به، مُكثراً من ذكره وشكره؛ فقد تكررت منه كلمة "ربي" مرات عديدة في هذه الآيات القليلة.
إن الأرض أرض الله، وإن الخلق خلق الله، فتعساً لمن استغل منصبه أو كرسيه في محاربة الله، وظلم عباد الله، ومعاداة أولياء الله، يتنكب عن الصراط، ويتستر على الظلم والفساد!.
وهنيئاً لمن ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فأقام فيهم الشرع، ونشر بينهم العدل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به )
اللهم وفق خادم الحرمين الملك سلمان لنصرة الحق وإحياء السنة. اللهم بارك له في عمره وأصلح له بطانته وإخوانه وأعوانه. اللهم كن له عونًا ومعينًا. اللهم وفقه إلى ما تحب وترضى، واجعله سيفا على الظالمين، ونصيرا للمظلومين، وعونا للضعفاء والمساكين.
اللهم وفق قادة الدول العربية والإسلامية لما في صالح شعوبهم وبلدانهم. ووحد كلمتهم لما فيه خير. وأجمعهم على الخير، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين