قتل والديه !

ناصر حيده
1438/01/26 - 2016/10/27 21:40PM
قتل والديه !
الخطبة الأولى :
الحمد لله البرِّ الرحيم ، كتب الإحسان على كل شيء ، وجعل رأس الإحسان الإحسان في عبادته مقروناً بالإحسان للوالدين : " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا " نحمده على النعمة بالدين القويم والصراط المستقيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، قرن شكره سبحانه بشكر الوالدين : " أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير " ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الخيرُ بحذافيره في بعثته ، والرفعةُ التامةُ في اتباع طريقه وسنته ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
أما بعد : فاتقوا الله تعالى كما أمركم : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً " ينجز لكم ما وعدكم : " يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم " ، وأطيعوه ورسوله تنالوا منزلة من : " فاز فوزاً عظيماً " .
أيها الناس : خلق الله تعالى الإنسان ولم يكن شيئاً مذكورا ، خلقه من نطفة الرجل إذا تمنى وجعلها في قرار المرأة المكين إلى قدر معلوم ، فسبحانه وبحمده من قَدَرَ فنعم القادر ، وعلِم ما يصلح لخلقه وهو اللطيف الخبير .
وكان من لطفه تعالى ورحمته أن أحاط هذا الجنين في بطن أمه وتحت نظر أبيه بعطفهما وحنانهما ورعايتهما إلى خروجه للحياة وترعرعه في صباه ثم شبابه حتى بلوغه أشده ، في رحلةٍ من العمر الطويل ، فيها آلام الوالدين وآمالهم ، وأفراحهم لولدهم وأتراحهم ، فيها بكاؤهم لأجله وضحكهم ، فيها سهرهم وتعبهم ، فيها ساعات ترقب تمضي بطيئةً محملةً بالألم لقلبين يترقبان العافية لولدٍ عرض له مرض ، أو عودة من سفر ، أو ذهاب أو مجيء أو دخول أو خروج ، يعيشان تلك المشاهد بأدق تفاصيلها ، فلحظاتها تحبس فيها الأنفاس ، ويضطرب القلب والحواس .
يعقوب عليه السلام يفقد بصره حزناً وأسفاً على فقد ابنه يوسف عليه السلام ، أم موسى عليه السلام أصبح فؤادها فارغاً من كل شيء في الدنيا إلا من همّ ابنها عليه السلام وذكره ، ويقول أحدهم : ولدت زوجة صاحبي مولوداً في الشهر السابع لم يعش إلا أياماً معدودات حتى توفي المولود ، فأعطوه لأبيه ليدفنه ، ركبت معه في السيارة وانطلقنا إلى المقبرة و هو واضع ابنه في حجره و عينه ترقب ابنه ، أثر بي الموقف و لكن تمالكت نفسي ، انحنى بنا الطريق , فاستقبلتنا الشمس ، فقام بحركة غريبة جداً ، نزع غترته و ظلل بها ابنه ليقيه حر الشمس ، يا الله ! لقد نسي الأب أن ابنه ميت ! غلبتني دمعة .. قفزت من عيني ، فصددت و انفجرت باكياً من رحمته بولده و فهمت حينها معنى الآية و أخذت أرددها : " وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا " .

عباد الله : حق الوالدين عظيم ، ومنزلتهما عالية في الدين ، فبرهما قرين التوحيد ، وشكرهما ورد في كلام الله مع شكر الله الحميد المجيد ، والإحسان إليهما من أجل الأعمال ، وأحبها إلى الكبير المتعال ، قال الله : " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً " ، وقال عز من قائل : " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً " ، وقال تعالى : " ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير "

بر الوالدين مما أقرته الفطر السوية ، واتفقت عليه الشرائع السماوية ، وهو خلق الأنبياء ، ودأب الصالحين . فهذا نبي الله نوح عليه السلام كان يدعو لوالديه بالمغفرة : " رب اغفر لي ولوالدي " ، وهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بلطف وإشفاق رغبةً في هدايته وخوفاَ من ضلاله وهلاكه ، في نداءات مكررة حانية : " يا أبتِ " " يا أبتِ "" يا أبتِ "" يا أبتِ " ، وهذا عيسى بن مريم عليه السلام يثني عليه ربه على لسانه عليه السلام وهو في المهد صبياً : " وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً " ، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه كان إذا دخل أرضه بالعقيق صاح بأعلى صوته : ( عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه ) ، فتقول : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، يقول : ( رحمك الله كما ربيتني صغيراً ) ، فتقول : يا بني ! وأنت فجزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً . وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دخلت الجنة فسمعت فيها قراءةً ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : حارثة ابن النعمان ، كذلكم البر ، كذلكم البر ، وكان أبر الناس بأمه " رواه أحمد . حكى الأصمعي يوماً فقال: حدثني رجل من الإعراب قال : خرجت من الحي أطلب أعق الناس وأبر الناس .. فكنت أطوف بالأحياء .. حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل .. يستقي بدلو لا تطيقه الإبل.. في الهاجرة والحر الشديد .. وخلفه شاب في يده رشاء – حبل - من قدٍّ – أي : سوط - ملويّ .. يضربه به قد شق ظهره بذلك الحبل ..!! فقلت : أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ؟ أما يكفيه ما هو فيه من مدى هذا الحبل حتى تضربه ؟ قال : إنه مع هذا أبي ...!! قلت : فلا جزاك الله خيرا . قال : اسكت فهكذا كان هو مع أبيه..!! وكذا كان يصنع أبوه بجده ..!! فقلت: هذا هو أعق الناس ... ثم جلت أيضا ..حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيل .. فيه شيخ كأنه فرخ .. فكان يضعه بين يديه في كل ساعة فيزقه كما يُزقُّ الفرخ .. فقلت : ما هذا ؟ قال: أبي وقد خرف وأنا أكفله ..قلت : فهذا أبر الناس .
أيها المسلمون : مما يعين على بر الوالدين الاستعانة بالله على ذلك بحسن الصلة به والدعاء ، واستحضار فضائل البر وعواقب العقوق ، واستحضار فضل الوالدين على الإنسان ، فهما سبب وجوده واللذان تعبا عمرهما لأجله ، ومما يعين على البر توطين النفس ومجاهدتها عليه ، وصلاح الآباء سبب صلاح الأبناء وبرهم ، وإعانة الوالد أولاده على بره بتشجيعهم وشكرهم والدعاء لهم يبعث التنافس بينهم في بره وقربه ، وقراءة أو سماع سير البارين بآبائهم مما يحفز على البر ويدفع له .

ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب

نفعني الله وإياكم بما سمعنا , وجعلنا أجمعين بآبائنا وأمهاتنا بارّين ، أحياءَ كانوا أو ميتين ، وأن نكون من أوليائه المتقين , وحزبه المفلحين , أقول ما تسمعون , وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .










الخطبة الثانية :

الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .

أما بعد : فاتقوا الله عباد الله وراقبوه ، وكونوا على حذر من يوم العرض عليه سبحانه حيث لا تخفى منكم خافية .

أيها المسلمون : نفجع بين الحين والآخر بما تشيب لهوله الولدان من أحداث عقوق الوالدين وصوره ، فليت المحذور في ذلك وقف عند قول ( أف )! لكنه تجاوز إلى نهرهما وزجرهما ، وإبكائهما وتحزينهما ، والتضجر من أوامرهما ، والعبوس وتقطيب الجبين أمامهما ، وأمرهما ، وترك مساعدتهما وخدمتهما ، والإشاحة بالوجه عند حديثهما ، وقلة الاعتداد برأيهما ، وترك الاستئذان حال الدخول عليهما ، وذمهما أمام الناس وذكر معايبهما ، وتشويه سمعتهما ، وإيثار الزوجة عليهما ، والتخلي عنهما عند الحاجة والكبر ، وإيداعهما دور العجزة والملاحظة ، والبخل والتقتير عليهما ، وتمني زوالهما ، ، وشتمهما ولعنهما ، والتعدي عليهما بالضرب ، وقتلهما ، وآهٍ ثم آهٍ لتلك القائمة الطويلة من صور العقوق كلها ، وآهات تترا ، تتفتت لها الأكباد وتتقطع لها القلوب من آخرها ( قتلهما ) .

عباد الله : للعقوق أسباب كثيرةٌ منها :
جهل الولد بثمرات البر وعواقب العقوق في الدنيا والآخرة ، وسوء تربية الوالدين على التقوى والبر والقيام بالواجبات ، وعقوق الوالدين لآبائهم سبب في عقوق أولادهم ، والتفرقة بين الأولاد وعدم العدل ، وقلة إعانة الوالدين لأولادهم على البر بعدم تشجيعهم والدعاء لهم ، والصحبة السيئة للأولاد مما يجرئ على العقوق ، ويأتي في ختام ما يسمح المقام بذكره من أسباب العقوق ( أم الخبائث المعاصرة المخدرات ) التي تخطت بمعاقرها كل حدود الدين والخلق والعقل والإنسانية لتقذف به في ظلمات " في بحر لجيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور " .

وصلوا وسلموا عباد الله ...
المشاهدات 939 | التعليقات 0