﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمدُ لله وليِّ من اتقاهُ، من اعتمدَ عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.
عباد الله:
أحسنُ القَصصِ، هي قَصصُ القرآنِ، ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾، وقَصصُ الحديثِ النبويِّ مستمدةٌ من معاني القرآنِ، ومتى وقرَ في القلبِ أنَّ ما ورد فيهما صدقٌ وحقٌّ، ليسَ فيه زيادةٌ ولا نقصانٌ كان لذلك عليه أثرٌ عظيمٌ، في تقويمِ نفسِهِ، وتهذيبِ طباعِهِ، وأخذِهِ العبرةَ والفائدةَ من القِصَّةِ، ومن عادةِ القرآنِ والسنةِ عند الإخبار بالقَصصِ، حذفُ التفاصيلِ غيرِ المهمةِ، والتركيزُ على ما ينفعُ المؤمنينَ، من الإخبار بصدق وعد اللهِ، وتحقق نصره لعباده، وتقويةِ صَبْرِهم على الأذى وشِدَّةِ العذابِ مِن المشْركينَ والكفَّارِ، وترسيخ الإيمانِ في قُلوبِهم.
ومن ذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن ملكٍ مِن مُلوكِ الأُمَمِ السَّابقةِ، «كان له سَاحِرٌ» يموِّه على النَّاسِ ويُخَيِّلُ لهم، «فلمَّا» تَقدَّمَ به العُمرُ، طلَبَ من الملكِ أنْ يُرسِلَ له غُلامًا يُعلِّمَه السِّحرَ، فبَعَث إليه غُلامًا يُعلِّمُه، وكان في طَريقِ الغُلامِ وهو ذاهبٌ إلى السَّاحِرِ «رَاهِبٌ»، وهو المتعبِّدُ مِن النَّصارَى، فتأثَّر به الغلام، وجلس إليه يتعلَّم ما عِنده مِن عِلمٍ عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فكان الغُلامُ إذا أراد أنْ يَصِلَ إلى السَّاحِر أو يعودَ إلى أهلِهِ مرَّ بالراهِبِ «فبَيْنَما هو على ذلك» مُتردِّدًا بيْن أهلِه والسَّاحرِ والرَّاهبِ مدَّةً مِن الزَّمنِ، إذْ خَرَجَت على النَّاسِ «دابَّةٌ عَظيمةٌ» فخافوا منها، فمَنَعتْهم مِن الوصولِ لِحوائجِهم، فقال الغلامُ في نفْسِه عِندما رَآها: اليومَ أَعلَمُ السَّاحِرُ أفضَلُ أمِ الرَّاهِبُ؟ فأمسَكَ بحَجرٍ، ثمَّ دعا اللهَ فقال: «اللَّهُمَّ إنَّ كان أمرُ الرَّاهبِ أحَبَّ إليك مِن أمرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هذه الدَّابَّةَ» أي: عَقِبَ وُصولِ الحَجَرِ إليها، «فرَماها» بالحجرِ «فقَتَلها» وتمكنَ الناس من المرور، فجاء الغُلامُ إلى الرَّاهبِ، فأخبَرَه بما فعَله بالدَّابَّةِ وبما دَعا به، «فقال له الرَّاهبُ: أَيْ بُنَيَّ! أنتَ اليومَ أفضلُ مِنِّي» أي: أعظَمُ دَرَجةً عندَ اللهِ تعالى «قد بَلَغ مِن أمرِك ما أَرَى» مِن كمالِ اليَقِينِ وصِدْقِ الاعتِقادِ، وما مَنَّ اللهُ به عليه مِن كَراماتٍ ومُعجِزاتٍ، «وإنَّك سَتُبتَلَى» حين تجهر بالدعوةِ، كما جرى مِن سُنَّةِ الله سبحانه في أنبيائهِ، وأوليائهِ، «فإنِ ابتُلِيتَ فلا تَدُلَّ علَيَّ» خَشيةَ أنْ يَصِلوا إليه، فيَفتِنوه في دِينِه.
وانتَشَر أمرُ الغلامِ بين النَّاسِ، وصارَ بقدرة الله يُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ، والأَكْمَهُ: هو الَّذي وُلِد أَعْمَى، والأَبْرَصُ هو الَّذي ابْيَضَّ جِلْدُ جَسَدِهِ، فسَمِع به أحدُ جلساء الملك المُقرَّبين إليه، ممن فقَدَ بصَرَه، فأتاه بهدايَا كثيرةٍ، وأخبَره أنَّها له إن شَفَاه، فردَّ الغلامُ بأنَّه لا يَشفِي أحدًا، إنَّما الشَّافي هو اللهُ عزَّ وجلَّ، «فإنْ آمَنْتَ باللهِ دعَوْتُ اللهَ» لكَ بالشِّفاءِ، «فآمَنَ» جَلِيسُ المَلِكِ فشَفاهُ اللهُ مِن العَمى ببرَكةِ الإيمانِ، فجاء الجَلِيسُ إلى الملِكِ على عادتِه، إلَّا أنَّه في تلكَ المرَّةِ كانَ يُبصِرُ، فسَأله المَلِكُ: «مَن ردَّ عليك بَصَرَك؟» قال: «ربِّي، فقال المَلِكُ: وَلَكَ ربٌّ غيري؟!» فردَّ الجليسُ: «ربِّي وربُّك اللهُ»، فأخَذَه الملِكُ، فعذَّبَه حتَّى أخبَرَ عن الغلامِ، فأمَر الملِكُ بالغلامِ، فجِيءَ به إليهِ، فقال له المَلِكُ: «أيْ بُنَيَّ قدْ بَلَغ مِن سِحْرِكَ» ما استَطعْتَ به أنْ تَشفِيَ المرضى، فأجابَه الغلامُ أنَّه لا يَشفِي أحدًا، إنَّما الَّذي يَشْفِي هو اللهُ U، فأخَذَ المَلِكُ، «فلم يَزَلْ يعذِّبُه حتَّى دلَّ على الرَّاهِبِ»، فجِيءَ بهِ إلى الملِكِ، «فقِيل له: ارْجِعْ عن دِينِكَ» فأبى، «فدَعَا» الملِكُ «بالمنْشارِ» فوَضَعه في وسَطَ رَأسِه، «فشَقَّه بهِ» نِصفينِ طُولًا حتَّى وَقَع جانباه على الأرضِ، «ثُمَّ جِيءَ بجليسِ المَلِك» فحدَثَ معه مِثلُ ما حَدَث مع الرَّاهبِ.
وأخَّر الغلامَ عنهما حتَّى يَرَى ما فُعِل بهما فيرجِعَ عمَّا هو عليه، ومن طمعه في رجوع الغلام عن دينه لم يقتله مباشرةً بل دَفَعه إلى نَفَرٍ مِن أَتباعِه وأعوانِه، وأمَرَهم أنْ يَصعَدوا به إلى جَبلٍ حتَّى يبلغوا قمَّته، «فإنْ رَجَع عن دِينِه وإلَّا فاطْرَحوه»، فلمَّا «صَعِدوا به الجبلَ» تَضرَّعَ إلى اللهِ سبحانه، وقال في دُعائِه: «اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بما شِئْتَ» أي: ادْفعْ عنِّي شَرَّهم بالَّذِي شِئتَ من أنواعِ الكفايةِ مِن مَكرِكَ لهم وحِفظِكَ لي، «فرَجَفَ بِهم الجبلُ فسَقَطوا وجاء» الغلامُ «يَمْشي إلى المَلِكِ» لِيظهر دينَ الله، ويُواصلَ الدعوةَ إليه، إذ كان الناس يتابعون خبره، ويترقبونَ ما يحصل؛ لعدمِ اعتيادهم على مثل هذه المواجهة.
فسأله المَلِكُ عن جُنودِه، فقال: «كَفانِيهم اللهُ، فدَفَعه إلى نَفَرٍ» آخَرِينَ مِن أتباعِه، ليلقوه في البحرِ، فقال الغلامُ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بما شئتَ، فانقَلَبَت بهم السَّفينةُ»، فغَرِقوا.
ثمَّ أخبَرَ الغلامُ المَلِكَ أنَّه لنْ يَستطيعَ قتْلَه، إلَّا بطريقة يحدِّدُها له، فسَألَه المَلِكُ عنها، فقال: «تَجمَعُ الناسَ»، في أرضٍ واحدةٍ، وتعلِّقني «على جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِن كِنانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في القَوْسِ»، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ ارْمِني، فإنَّك إذا فعلتَ ذلك قَتَلْتَنِي»، ففَعل المَلِكُ ما قاله الغُلام وهو لا يشعرُ أنَّ هذه الطريقة تثبتُ عجزَه للناس الذي يتابعون خبرَ الغلامِ، وأن الغلامَ يضَحِّي بنفسهِ لهدايتهم وتثبيتهم، «فوَقَع السهمُ في صُدْغِ» الغلامِ وهو ما بينَ العَيْنِ إلى شَحْمَةِ الأُذُنِ، «فوَضَع يدَه في صُدْغِه» لِتَأَلُّمِه «فمات»، فقال الناسُ: «آمَنَّا برَبِّ الغلامِ آمَنَّا برَبِّ الغُلامِ، آمَنَّا برَبِّ الغُلامِ» ثَلاث مرات؛ تَأكيدًا على صِدقِ إيمانِهم.
فجاء إلى الملِكِ أحدُ أتباعهِ وقال: «أجَزِعْتَ أنْ خالَفَكَ ثلاثةٌ؟! فهذا العالَمُ كلُّهم قدْ خالَفوكَ»، فأَمَرَ الملك «بالأُخْدُودِ في أَفْوَاهِ السِّكَكِ»، أي في مَداخلِ الطُّرُقِ وأوائلِها؛ لئلَّا يَتمكَّنَ النَّاسُ مِن الهروبِ، وأشعَلَ النِّيرانَ فيها، وأمرَ جنوده: «مَن لم يَرْجِعْ عن دِينِه فأَحْمُوه فيها ففَعَلوا» ما أُمِروا به، واستَمَرُّوا يلقون الناس في الأخدود «حتَّى جاءتِ امرأةٌ ومَعَها صَبِيٌّ لها» في عُمْرِ الرَّضاعِ، فتَوقَّفتْ وكَرِهَتْ أن تَقَعَ برضيعِها في النَّارِ، فنَطَق رَضيعُها بقدرةِ الله وقال لها: «يا أُمَّاهُ، اصْبِرِي فإنَّكِ على الحَقِّ»، اصبري على هذا العذابِ؛ فإنَّه يَؤُولُ إلى جَزِيل الثَّوابِ.
انتهت قصة النبي صلى الله عليه وسلم، ، وقد أنزل الله سبحانه فيها آياتٍ منها: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فقد ماتَ أصحابُ الأخدودِ بعدَ فتنتهمْ وإيذاءهم للمؤمنينَ، وخلَّدَ اللهُ تعالى قِصَّتهمْ في كتابه الكريم؛ لتكونَ عبرةً لكلِّ مؤمنٍ، يستخلصُ منها أنَّ نصرَهُ وعزَّهُ وفوزَهُ هو الثباتُ على هذا الدينِ، حتى يلقى الله ربَّ العالمين.
إنها قصةٌ تخبرنا أن التوفيق بيد الله، فقد اختارَ الملكُ الغلامَ ليكونَ ساحرَه بعد حينٍ، وداعيته إلى الضلال، لكنَّ الله وفَّقَهُ فكانَ داعيةً إليهِ، وسببًا لدلالة الناسِ عليه.
ولم تكن وفاةُ الراهبِ والجليسِ والغلامِ ومن معهم من المؤمنينَ مجازفةً، بل كانت ثباتًا فيه إغاظةٌ للظالمينَ، وإرضاءٌ لله ربِّ العالمينَ.
لقد كان المنشارُ بلا شكٍ مؤلمًا للراهبِ والجليسِ، والسهمُ موجعًا للغلامِ، والحرقُ متعبًا للمؤمنينَ، ولذلك كان ثوابُهم عظيمًا، فليس في القرآنِ كلِّه فوزٌ وصفَه الله بالكبير إلا الفوزَ الذي ذكره في خَبَرِ أصحابِ الأخدودِ. ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾.
إنَّ هذه القصَّةِ النبويَّةِ تُخبِرُنا أنَّ دينَ الله منصورٌ، والعاقبةَ للمتقينَ، فهل كانَ ساكنٌ في تلكَ المدينةِ، يرى استفحالَ أمرِ الشركِ فيها، وحرصَ الملكِ والساحرِ وأعوانِهم على استمرارِ شرِّهم ومكرِهم، وعجزَ الراهبِ عن الجهر بالدعوةِ إلى الله يتصورُ أنَّ الله جلَّت قدرتُه سينتشلُهم من براثنِ الشركِ، ويقودُهم إلى الفوز الكبير بسبب ثبات غلام صغير؟
إنها عبرٌ للمؤمنين على مرِّ الأزمان، والموفق من اعتبر بها، واستفاد منها، ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.