في وداع رمضان (لم يبق منه إلا ليلةٌ أو ليلتان)

محمد بن عبدالله التميمي
1446/09/27 - 2025/03/27 19:55PM
في وداع رمضان
الحمد لله ، لا يَعزُبُ عنه مِثقالُ ذرةٍ في الأرض ولا في السماء، يمينُه مَلْأى لا يَغيضُها نفقةٌ، سَحّاءُ الليل والنهار، وعطاؤه وخيرُه مبذول للأبرار والفجّار، أشهدُ ألّا إله إلا اللهُ وحده، له الحمدُ كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، لا يتعاظمه خيرٌ سُئِلَه، ولا تَنقصُ خزائنُه على كثرة عطائه وبذْلِه، وأشهد أن محمدا رسوله وعبده، بعثه الله تعالى رسولا إلى الناس ليُخرجهم من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فبلّغ رسالة ربه وأدى أمانته، ونصَح لأمته، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، فالسعادةُ كلُّها في طاعته، والأرباحُ كلُّها في معاملته، والمِحَنُ والبلايا كلُّها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفعُ من شكره وتوبته ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
أفاضَ على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمَّن الكتاب الذي كتبه أنَّ رحمته تَغلبُ غضبَه ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
يطاعُ فيَشكر -وطاعتُه من توفيقه وفضلِه-، ويُعصى فيَحْلُمُ -ومعصيةُ العبد من ظلمِه وجهلِه- ويتوبُ إليه فاعلُ القبيح فيَغفرُ له حتى كأنَّه لم يكن قطُّ من أهله ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
الحسنةُ عنده بعشر أمثالها أو يُضاعفها بلا عدد ولا حسبان، والسيئةُ عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران، وبابُ التوبة مفتوحٌ لديه منذ خلق السماوات والأرض إلى آخر الزمان ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
نهَجَ للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها، وعرَّفه طرقَ تحصيلِ السعادة وأعطاه أسبابَها، وحذَّره من وبال معصيته وأَشهدَهُ على شُؤمِها وعقابها، وقال: إن أطعتَ فبفضلي، وأنا أشكر، وإن عصيتَ فبقضائي، وأنا أغفر ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
أزاحَ عن العبد العِلَلَ وأمَرَهُ أنْ يستعيذَ به من العجز والكسل، ووعَدَه أنْ يَشكرَ له القليلَ من العمل، ويَغفر له الكثيرَ من الزلل ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾
أعطاه ما يَشكرُ عليه، ثم يَشكرُه على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه إليه، ووعَدَهُ على إحسانه لنفسه أنْ يُحسِن جزاءه ويُقرِّبَه لديه، وأنْ يَغفرَ له خطاياه إذا تاب منها ولا يَفضحُه بين يديه ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
وثِقت بعَفْوِه هفواتُ المذنبين فوسِعَتْها وعَكَفَت بكرمه آمالُ المحسنين فما قطع طمعها، وخرَقَت السبعَ الطباقَ دعواتُ التائبين والسائلين فسمعها، ووسِعَ الخلائقَ عفوُه ومغفرتُه ورزقُه فما مِن دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويَعلم مستقرَّها ومستودعَها ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
يجودُ على عبيدِه بالنَّوالِ قبل السؤال ويُعطي سائلَه ومؤمِّلَه فوقَ ما تعلَّقت به منهم الآمال، ويَغفرُ لمَن تاب إليه ولو بلغت ذنوبُه عدد الحصى والرمال ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾
أَرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرحُ بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض المَهْلَكَةِ إذا وجدها، وأَشكرُ للقليل من جميع خلقه فمَن تقرّب إليه بمثقال ذرة من الخير شكرَها وحمِدَها ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
تعرَّف إلى عباده بأوصافِه وأسمائه، وتحبَّبَ إليهم بِنعمِه وآلائِه، ولَمْ تَمنعْهُ معاصيهم بأنْ جادَ عليهم بعطائِه، ووعَد مَن تاب إليه وأحسنَ طاعتَه بمغفرةِ ذنوبه يوم لقائِه ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
باب الكريم مَنَاخُ الآمال ومَحَطُّ الأوزار، وسماءُ عطاه لا تُقلِع عن الغيث بل هي مدرار ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
لا يُلقَّى وصاياه إلا الصابرون، ولا يَفوزُ بعطإياه إلا الشاكرون، ولا يَهلكُ عليه إلا الهالكون، ولا يَشقى بعذابه إلا المتمرّدون ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾
مَن علِمَ أنَّ الربَّ شكورٌ تنوَّع في معاملته، ومَن عرف أنه واسعُ المغفرة تعلَّق بأذيال مغفرته، ومَن علم أنَّ رحمتَه سَبقَتْ غضبَه لم يَيْأسْ مِن رحمته ﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
حياةُ القلوب في معرفتِه ومحبته، وكمالُ الجوارح في التقرُّب إليه بطاعته والألسنةِ بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته، فأهلُ شكره أهلُ زيادته، وأهلُ ذكره أهلُ مجالستِه، وأهلُ طاعته أهلَ كرامته، وأهلُ معصيتِه لا يُقنِّطُهم مِنْ رحمتِه، إنْ تابوا فهو حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فهو طبيبُهم، يَبتليهم بأنواع المصائب لِيُكفّرَ عنهم الخطايا ويُطهرَهم من المعائب ﴿إنه غفور شكور﴾ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين، إن ربي عفوٌّ غفور.
الخطبة الثانية
الحمد لله يقلب الليل والنهار، ويمضي الشهور والأعوام لتعلموا عدد السنين والحساب، نحمده على ما منَّ به علينا من إدراك رمضان، والمعونةِ على الصيام والقيام، ونسألُه أنْ يَختمَ لنا شهرنا بالقبول والرضوان والعتق من النار، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحدُ القهار، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى هاديًا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل البر والتقى، ودعاة الخير والهدى، ومن تبعهم بإحسان واقتفى.. أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، فها هو شهرُ التقوى قد أَزِفَ رحيلُه ودنى تحويلُه، فهنيئا لمَن عمَره بذكر الله، ويا خسارة من مضى في معصية الله، ولم يكتسب فيه مغفرة الله ورضاه.
عباد الله.. بقي من شهركم ليلة أو ليلتان، فطوبى لمن عَمَرَها بالعملِ الصالح المبلِّغ رضى الرحمن، وما يَدريك أنْ تكونَ ليلةُ القدْرِ فيما بقي -واللهُ المستعان، وعليه التُّكلان- ويا حسرةَ من كان فرط وهو بعدُ مقيم على الخسران، فلْيَتذكر أنْ قد دعا جبريلُ عليه السلام، وأمّن نبينا عليه الصلاة السلام بأنْ يُبعَدَ ويُرغَم أنفُ مَن لم يُغفر له في رمضان.
وإنَّ فيما بقي مستعتب، فبابُ التوبة مفتوح، وخيرُ الله يغدو ويروح، ولله في كلِّ ليلةٍ من رمضان عتقاءُ من النار.
ثم اعلموا عباد الله أنْ قد شرع الله تعالى لكم في ختام شهركم أعمالاً صالحة تزكّي نفوسكم، وتُتَمِّمُ طاعتَكم، وتَجبُرُ نقصَ صيامِكم، ومن ذلكم: (زكاة الفطر) التي فرضها الله تعالى طُهرةً للصائمين، وطُعمةً للمساكين، وأوجبها على الواجِدين من المسلمين، مَن أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، كما ثبت ذلك عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، يخرجها الرجل: (عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته من زوج وولد ونحوهم...) ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ».
والأفضل أنْ يخرجها المسلمُ صبيحةَ يوم العيد قبل الصلاة، وله أنْ يقدِّمَ إخراجَها قبل العيد بيومٍ أو يومين، كما جاء ذلك عن الصحابة -رضي الله عنهم-. كما شرع الله تعالى لكم في ختام شهركم تكبيرَه عز وجل على ما هداكم للإيمان، وشُكرَه على ما وفقكم للصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ويبدأُ التكبير من غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى صلاة العيد.
 
 
 
 
المرفقات

1743094436_⁩في وداع رمضان- نسخة للجوال.docx

1743094436_في وداع رمضان- نسخة للجوال.pdf

المشاهدات 2811 | التعليقات 0