في موت الملوك عبرة وعظة

إبراهيم بن سلطان العريفان
1436/04/03 - 2015/01/23 07:44AM
الحمد لله الذي هدم بالموت نشيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، لا يمتنع منه ممتنع بجدار، ولا يحترس منه محترس بكثرة جموع وأنصار، حكمة بالغة من حكيم ذي اقتدار. أحمده سبحانه وأشكره، وفضله على شاكره مدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
سبحانك ربنا كتبت على خلقك الفناء وتفردت وحدك بالبقاء، قدرت علينا الموت وأنت حي باق دائم، سبحانك يا من جعلت لكل أجل كتاباً، ولكل نفس حساباً تنال بعده ثواباً أو عقاباً، وقصَرت الأعمال على وقت محدود ونفَس معدود، سبحانك جعلت لكل حي نهاية ولكل إنسان غاية ووقتاً معلوماً ورزقاً مقسوماً وقضاء محتوماً لا نقص فيه ولا محيص ( فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) وإذا انقضى العمر فهيهات أن تشترى دقيقة واحدة ولو بأموال قارون. سبحانك يا من جعلت العدم نهاية كل حي وختام كل شيء وآخرة كل كائن، فمهما عاش الإنسان فهو إلى الموت صائر، ومهما تجبر فلا بد إلى القبر سائر (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) قضاء نافذ وحكم شامل وأمر حتم لازم لا مهرب منه ولا مفر ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون ).
لِمَ قدَّر الله الموت على عباده وكان قادراً ألا يميتهم؟ لِمَ كتب الفناء على خلقه ولو شاء لأبقاهم وخلدهم في دنياهم؟ ما حكمة الموت وما فائدته؟ ولم لا نعيش أبداً لا نفنى ودائماً لا نذهب؟ سبحانك يا من تفردت بالقدرة جلت حكمتك خلقت مع الإنسان نفساً طامعة وشهوة شرهة جائعة أمارة بالسوء ميالة للشر منقادة للهوى.
فالموت زاجر رادع وحاجز مانع، ولولاه لما وقف إنسان عند حد، ولولاه لما رجع مخلوق عن أي غرض وقصد ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) قدر الله علينا الموت ليذل به كل جبار عنيد، ويقهر به كل مستبد عتيد، وليكون إنذاراً للغافلين، وتنبيها للنيام والجاهلين، وصاعقة على الباغي، ونكبة على الطاغي، ولجاماً للشهوات.
قدر الله علينا الموت ليذكرنا بقدرته وعظمته، قدر الله علينا الموت ليكون أكبر عظة وعبرة وأبلغ درس وحكمة.
فأي نفس لا تلين وهي ترى الناس يموتون فلا يرجعون. وينزل بهم الموت فلا يستطيعون له دفعاً ولا يملكون له حيلة.
فالموت حق واقع ماله من دافع، ولكنه الحق المر المكروه، والوعد الصادق المبغوض، ولن يكره الموت إلا رجل تعلق بالدنيا، فهو يخشى فراقها، وشغل باللذات فهو يغالط نفسه عن النهاية ويخدعها عن الآخرة، أما المؤمن فهو للموت ذاكر ولربه شاكر ولإخوانه معين ومناصر.
أيُّها المؤمنون ... جديرٌ بمن الموتُ مصرَعُهُ، والترابُ مضجعُهُ، والدودُ أنيسُهُ, ومُنكرٌ ونَكيرٌ جليسُهُ, والقبرُ مقرهُ، وبطنُ الأرض مُستقرهُ، والقيامة موعدُهُ، والجنة أو النارُ موردُهُ، أن لا يكونَ لهُ فكرٌ إلاَّ في الموت, ولا ذكر إلاَّ للموت, ولا استعداد إلاَّ لأجل الموت، ولا تدبير إلّا في الموت, ولا تطلع إلاَّ إلى الموت، ولا تعريج إلاَّ على الموت، ولا اهتمام إلاَّ بالموت. فالموتُ هوَ الوقتُ المعلومُ، والأجلُ المحدودُ، فإذا جاءَ أجلُ الإنسان فقد دنتْ ساعَتهُ، وحانتْ مَنيَّـتـُهُ.
لقد خاطبَ ربُّ البشرِ، سائرَ البشرِ, بما خاطبَ بهِ سيدَ البشر صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فقالَ عزَّ مِنْ قائل ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) فاللهُ تباركَ وتعالى كتبَ على خلقِهِ الفناءَ, ولنفسِهِ البقاءَ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ).
أيُّها العُقلاءُ الأكارمُ ... إنًّ العُمُرَ قصيرٌ وإن طالَ التـَّمَتـُّعُ بهِ, وإنَّ القبرَ يَضِيْقُ إلاَّ لِمَنْ أعدَّ لهُ, وإنَّ الحسابَ قريبْ؛ فمَنْ يُعِدُّ لهُ؟ فاليومَ عملٌ ولا حِساب, وغداً حِسابٌ ولا عَمل, فلا بدَّ -واللهِ- منَ التفكـُّرِ والتدبُّرِ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... الحقيقة الحاضرة الغائبة أنّ الموت في هذه الدنيا نهاية كل حي، وختام كل شيء،
وما الدهرُ إلا مَرُّ يومٍ وليلةٍ *** وما الموتُ إلا نازلٌ وقريبُ
إخوة الإيمان، ولئن كانت مصيبة الموت بعامّةٍ كبيرة، والفاجعة بالفَقْد عظيمة؛ فإن الرزِيّة تكون أعظم وقْعًا، وأكبر أثرًا، حينما تكون بفَقْد ولي أمر المسلمين، وإمام عظيم من أئمة الإسلام، وقائد فَذّ من أبرز قادة الأمة الإسلامية.
لَعَمْرُكَ مـا الرزِيَّة فَقْدُ مـالٍ *** ولا شـاةٌ تمـوتُ ولا بَعِيـرُ
ولـكنّ الرزِيَّة فَقْـدُ شَهْـمٍ *** يمـوت بمـوته بَشَـرٌ كثيـرُ
فلم يعرف التاريخ فاجِعة أعظم من فَقْد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو القائل ( من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته فيّ ).
أيها المؤمنون ... في حَدَثٍ هزّنا خبُرُه، وأفزعنا نبؤه، خبرٍ عزّ علينا مَسْمَعُه، وأثّر في قلوبنا مَوْقِعُه، خبرٍ تألمّت له المسامِع، وسُكَبت من أَثْره المَدامِع، وارتجّت من هَوْله الأضالِع، نبأٍ كادت له القلوب تتفَجّع، والنفوس تتوجّع، فقد كان من الحزن أن تعجز الألسن عن ذكره، وتتضاءل الكلمات عن وصفه، نبأ أشخص النَّبَرَات، وأذرف العَبَرات، وأورث الحسرات، وأطال الزَّفَرات... نبأ وخبر وفاة الإمام والقائد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه ورحمه الله رحمة واسعة ... أحسن الله عزاءنا، وجبر مصابنا، وأعظم أجرنا .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فمع فَدَاحة المصيبة، وعِظَم الفَجِيعة، فلا يملك المسلم حيالها إلا الرضا والتسليم، والتذرُّع بالصبر والاحتساب. ولئن غاب فقيد الأمة الإسلامية في شخصه وذاته فإنه لم يغب في أفعاله وصفاته.
قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهُمْ *** وعاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ
شاهِدُ ذلك بجلاء تلك الأعمال الفريدة: الحرمان الشريفان حرسهما الله، اللذان شهدا في عهده رحمه الله أكبر توسعة عرفها التأريخ. سائلِو المساجدَ والمدارس والجامعات والمراكز الإسلامية والصروح الحضارية ومعاقل التربية وقلاع التعليم؛ فسَتَنْطِقُ شاهدة على أعماله الجليلة، ومآثره العظيمة.
تبكيه ـ رحمه الله ـ قضايا المسلمين الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين والأقصى، والأقلّيات الإسلامية في شتّى أنحاء العالم. فَسَجِّلْ يا تأريخ، واشهد يا عالم، وسَطِّرِي يا أقلام، واكتبي يا مِدَاد بأحرف من نور وفاء بحقّ فقيد الأمة الإسلامية، وذِكْرًا لمحاسنه، أداءً لبعض حقّه علينا، رحمه الله رحمة واسعة.
نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، أن لا يحرمه ثواب ما قدّم للإسلام والمسلمين بمنّه وكرمه، اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعِيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت؛ أن تحسن عزاء الجميع، وأن تخلف عليهم الخَلَف المبارك، وأن تجبر المصاب، وتغفر للفقيد. والحمد لله على قضائه وقدره، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى.
أيها المؤمنون .. فمع لَوْعَة الفراق تمّ الوفاق والاتفاق، ومع أسى الوداع تم الاعتصام والاجتماع، في مظهر فريد، ونسيج متميّز، ومنظومة متألّقة من اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والتفاف الأمّة حول قيادتها، بأعين دامعة، وقلوب مُبَايِعة، ومُبادَرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنة، بسلاسة وانسيابيّة ويُسر وتلقائيّة، قَلَّ أن يشهد لها التأريخ المعاصر مثيلاً، وهذا بحمد الله ومَنّه يُعدّ من عاجل البشرى،
وبهذه المناسبة فإننا نجدّد ونؤكّد البيعة الشرعية لولاة أمرنا وفّقهم الله، على كتاب الله وسنة رسوله ، بيعة مخلصة، وولاءً صادقًا، على السمع والطاعة بالمعروف في العُسْر واليُسْر، والمَنْشَط والمَكْرَه، امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ، واستنانًا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن على هذا المنبر نعلن البيعة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير مقرن بن عبدالعزيز، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةٍ جاهلية )
أعانهم الله، ووفّقهم لما فيه عزّ الإسلام وصلاح المسلمين، وجعلهم خير خلف لخير سلف، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
اللهم اغفر للملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الذنوب والخطايا ...
المشاهدات 4078 | التعليقات 0