في مرور الأيام عبرة وعظة

حسين بن حمزة حسين
1446/02/29 - 2024/09/02 13:26PM
إخوة الإيمان: إنّ حياتَنا مراحل، ونحن في هذه الدّنيا ما بين مستعد للرحيل وغافل، فالليلُ والنهارُ يتعاقبان فينا، فما منّا إلا حيٌّ ستدركه منيّتُه قريباً فيوارَى بالتراب أو صغيرٌ فيبلغ سنَّ الشباب أو شابٌّ ستمتد به الحياة حتى يشيب، ولكلّ أجل كتاب، ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون، ثم نقاش وحساب، ثمّ إلى جنة وإما إلى نار.عجيبةٌ هذه الدنيا، تمر فيها أيامُ السعادة كأنها ساعات، وتزحفُ فيها ساعات الحُزن كأنها سنوات، تذهب السعادةُ بجمالها، وترحلُ الهموم بجبالها، وتبقى الذكريات بأطلالها، يموت الميّتُ فنبكي، ويولَد المولودُ فنفْرح، ويمرَض الصحيح فنحزن، ويعافى المبتْلى فنسْعد، نغيب عن بعضنا ثم نراهم وقد أثّر الزمان على وجوههم وأبدانهم، نلتقي ثم نفترق، ونحن لا نعلم هل سنلتقي مرة أخرى أم لا، ونحن نعلم يقيناً أنّنا لو عمّرنا في هذه الدنيا سنرى رحيل الأحباب، وفقْد الأصحاب، ولن يبقى منهم إلا جميل الذكريات، هكذا الحياة مهما امتدّت قصُرَت، ومهما طالت نقَصَت، النَّفس من أنفاسك يُقربك إلى دار البقاء ويبعدك عن دار الفناء، وإنّ في تقلب الأيام، ومرور الشهور والأعوام تذكرةٌ وموعظةٌ لأولي الأبصار، قال تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ).                            
        دقاتُ قلبِ المرءِ قائلةً له *** إنّ الحياة دقائقٌ وثواني 
انظروا -بارك الله فيكم- سرعةَ مرور الأيام، كنّا قبل أيّام ننتظر دخول العام الجديد، وها نحن وقد مضى شهرين، قريباً من ستّين يوماً، كأنها لمحةُ بَصَرْ، ما إن يَفْتَحُ اليومَ صباحُه، في لحظةٍ يُخْتَم مساءُه، وكأنها أضغاث أحلام       
                          أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ *** إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ 
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إنما أنت أيّام، كلما مضى منك يومٌ مضى بعضك".، قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ؟ كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجَلِهِ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ؟ إخوة الإيمان: إن أحدَنا يفرحُ بمرور الأيام، وتمامِ الأعوام، لينال راتباً أو علاوةً أو إجازةً أو يفرحُ بغائبٍ يُنتظر أو صغيرٍ يكْبُر، يفْرحُ وحُقّ له الفرح فيما أباح الله، ولكن السؤال: ليتفكّر إلى ماذا تسوقُه الأيامُ والشهورُ والأعوام؟ ما الذي يَفْقِدُ بمرورها، وإلى أين تحمله؟، إنها تذكرةٌ بانتهاء عمره، وانقضاء أجله، وسرعان ما يُقال: لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل   
                  
    إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مـضى يُدني من الأجل  
            
      فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخـسران في العمل
 عباد الله: أصبحت أسابيعَنا كأيام، وشهورَنا كأسابيع، وأعوامنا تمضي سريعاً، إن الذي تمضي به الأيام كالمسافر، يبتعد عن داره وأحبابه، ليُوصِلْهُ سفرُه إلى داره ومسكنه الجديد، فنحن في مركب سفر منذ أن خرجنا من بطون أمهاتنا، نحن في سفرٍ سائرون وإلى قبورنا قادمون، وعن دورنا وأهلينا ولذاتنا بل عن الدنيا بأكملها مفارقون، قال تعالى ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، قال ابن عمر رضي الله عنه (أخذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمنكِبي، فقال: كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو كعابرِ سبيلٍ، وكان يقول رضي الله عنه: (إذا أصبحتَ فلا تنتظِرِ المساءَ، وإذا أمسيْتَ فلا تنتظِرِ الصَّباحَ، وخُذْ من صِحَّتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك) متفق عليه، فالمُؤمِنُ يجعَلُ الدُّنيا دارَ عَمَلٍ وعبادةٍ لِيَحصُدَ ثوابَ ذلك في الآخِرةِ، وليْستِ الدُّنيا إلَّا دارًا فانيةً سَتَنْتهي إنْ عاجلًا أو آجل ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ )                
           أَيَا وَيْحَ نَفْـسِي مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا *** إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُهَا السعيد -عباد الله- من بادَر زمانه، وحفظ أوقاته، واجتهد في عملٍ يُقربه إلى ربه، قال تعالى (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (السعيد من تاب وأناب، واستعد ليوم الحساب، السعيد من استعد لآخرته بالأعمال الصالحة ونال حُسن الختاماللهم أحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ولا تكلنا لأنفسنا فنضل يا رب العالمين الخطبة الثانية:اتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن الله لم يخلقْكم عبثًا، ولم يتركْم سُدًى، بادروا في اغتنام الأوقات، بالأعمال الصالحة قبل الفوات، فزرْع الأعمار قد دنا للحصاد، ومُدَدُ الأيام قد قاربت للنفاذ، فاعتبروا بمن سبق به القَدَر، وانتهى به الأجَل، فكم أوْدعنا الثّرى من غالٍ وعزيز، وذلك إنذار لنا بنفس المصير، ولكل أجل كتاب،
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ *** متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
 نُشاهدُ ذا عَينَ اليَقينَ حَقيقَةً ***  عَلَيهِ مضى طِفلٌ وَكهلٌ وَأَشيَبُ
وَلكن عَلى الرّانِ القُلوبُ كَأَنَّنا  *** بِما قد عَلمناهُ يَقيناً نكذِّبُ
قال تعالى يصفُ حال العصاة في جهنّم (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)، لا يغتر صغيرٌ بطول عمُره، ولا صحيحٌ بعافيته، ولا شابٌ بقوّته وطول أمله، ولا شيخ بامتداد عمره، فالموت أقرب لأحدنا من شراك نعله، فمهما طال الإمهال، لا بد من نهاية الآجال، ومهما امتدت الأعمار، فستأتي ساعة الاحتضار، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، قال تعالى(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، والمرء لا يدري كم بقي له من أيامه وزمانه، (فمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)، فلينظر كل واحد منّا إلى تقصيره مع ربّه وقلّة زاده، وليعزم عزمًا أكيدًا أن يحسن فيما يستقبله من أيام، فالكيِّس من حاسب نفسه وعمل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، قال تعالى (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)،يا بنَ آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحْبِبْ من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، البِرُّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدَّيَّان لا يموت، وكما تدين تُدان، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقائك
المشاهدات 250 | التعليقات 0