في ظل تضييع المال العام..وقفة على شاطئ العمرين(1)-25-3-1441هـ

محمد بن سامر
1441/03/25 - 2019/11/22 08:35AM
في ظل تضييع المال العام.. وقفة على شاطئ العمرين-1-25-3-1441هـ-مستفادة من خطبة الشيخ بلال الفارس
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وليُ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُه الأمينُ، عليه وآلهِ الصلاةُ وأتمُ التسليمِ.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الأعزاء، يعجبُ المتأملُ لحالِنا اليومَ، شعوبٌ تحتَ خطِ الفقرِ، وملايينُ تشتكي ظلمَ الحاكمِ وجورَ المسؤولِ؛ الجوعُ هدَّهُم، والفقرُ حدَّهُم؛ يبحثون بكل السبلِ عن العدلِ، ويشتكون من الظلم في تصريف المال العام للمسلمين.
هنا وهناك، مدينةٌ تغرقُ، وناسُ يموتون، مشاريعُ وهميةٌ، وخياناتٌ جليةٌ، يكشفها يومٌ ماطرٌ، وسحابٌ ثقيلٌ.
إن تضييعَ الأمانةِ ممن أُوسدتْ له أولُ درجاتِ البلاءِ، لقد أُكِلَتِ الأَموَالُ العَامَّةُ بِأَدنى الحِيَلِ، وضُيِعتْ حُقُوقُ العِبَادِ بالخِدَاعِ وَالمكرِ، وَأُهدِرَتِ المبَالِغُ الطائلةُ فيما لا ينفعُ وقدْ يضرُ، واستغلَّ بعضُ ضعافِ النفوسِ-ممن استأمنَهم وليُ الأمرِ-استغلوا مناصبَهم والميزانياتِ التي يديرونها بالسرقةِ والجشعِ، والرشاوَى والطمعِ، والغشِ والتقصيرِ والتفريطِ.
إنَّ الأمانةَ ثقيلةٌ، "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"، فما بال ناسٍ حملُوها وليسوا لها بأهلٍ، غرَّهم رِفعةُ المنصبِ، وعلوُ الجاهِ، ولم يستشعروا أنَّ مسؤوليتَهم عظيمةٌ، وتأثيرَهم كبير، قال-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَّ-: "كُلُكُمْ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتِه".
تعالوا بنا إلى سلفِنا الصالحِ-رحمَهم الله-إلى شاطئِ العُمَرينِ: عمرَ بنِ الخطابِ، وحفيدِه عمرَ بنِ عبدالعزيزِ، -رضي اللهُ عنهم-حيثُ يفيضُ العدلُ، ويزولُ الظُلمُ، وتحفظُ الحقوقُ؛ كانَ شُعارهُم: "إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ"، ورايتُهم: "اعدلوا هو أقربُ للتقوى"، وآمرُهم: "إنَّ اللهَ يأمركم أن تؤدوا الأماناتِ إلى أهلِها، وإذا حكمتُم بين الناسِ أنْ تحكموا بالعدلِ"، وناهيهِم: "لا تأكلوا أموالَكم بينكم بالباطلِ".
من صفاتِ أميرِ المؤمنينَ عمرِ بن الخطابِ الرحمةُ والعدلُ، فالعدلُ نهرٌ يصبُ من بحرِ الرحمةِ، والعدلُ والرحمةُ صفتان أساسانِ يجبُ أن يتحلى بها كلُ مسؤولٍ.
لقدْ كان عمرُ يتعاهدُ الأراملَ، فيسقي لهنّ الماءَ بالليلِ، فرآه طلحةُ يدخلُ بيتَ امرأةٍ في الليلِ، فدخلَ إليها طلحةُ نهارًا، فإذا هي عجوزٌ عمياءٌ مُقعدةٌ، فسألهَا: ماذا يفعلُ عندك ذاكَ الرجلُ الذي أتاكِ في الليلِ؟! قالت: منذُ مدةٍ طويلةٍ يأتيني هذا الرجلُ-الذي لا أعرفهُ-فيتعاهدني، فيأتيني بما أحتاجُ إليه، ويكنسُ بيتي، ويُخرج الأذى منه، فخرجَ طلحةُ يبكي.
ومع الرحمةِ، كان عدلُ عمرَ مَبْنيًا على المحاسبةِ الصادقةِ في كلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ليبتعدَ عنِ الخطأِ والتقصيرِ؛ غضبَ عمرُ على رجلٍ فضربه بالدِّرة، ثم ندمَ على ضربهِ، فاستدعى الرجلَ ليأخذَ حقه من عمر، فأبى الرجلُ وقال: أدعُها للهِ، فدخلَ عمرُ منزلَه وصلى ركعتينِ وجلسَ، وقالَ يعاتبُ نفسَه: "يا ابنَ الخطابِ، كنت وضيعًا فرفعَك اللهُ، وضالا فهداك اللهُ، وذليلًا فأعزَّك اللُه، ثم أمّركَ على المسلمينَ، فجاءَك رجلٌ يطلبُ منك الحكمَ بالعدلِ فضربتَه، ماذا تقولُ لربِك غدًا إذا أتيتَه؟!
لم يكن عمرُ في برجٍ عالٍ، أو قصرٍ فخمٍ، أو مكتبٍ وثيرٍ، ولم يكنْ عندَه حرسٌ أو عاملونَ يمنعونَ الناسَ من الوصولِ إليهِ، لقد كان عمرُ يتولى أمورَ الناسِ بنفسِه، ينزلُ إليهم، ويسمعُ شكواهم.
خرج عمرُ ليلةً إلى حَرَةِ المدينةِ، ومعه خادمُه أسلمُ، فإذا نارٌ، فقالَ: يا أسلمُ، ما أظنُ هؤلاءِ إلا مسافرينَ أضرَّ بهم الليلُ والبردُ، فلما وصل إليهمْ، رأى امرأةً ومعها أولادُها يبكونُ من الجوعِ، قد وضعتْ لهم قدرَ ماءٍ على النارِ، تُسَكِّتُهم به ليناموا، فقال عمر: السلامُ عليكم يا أهلَ الضوءِ، ما شأنُكم؟ وما شأنُ هؤلاءِ الصبيةِ؟ قالتِ المرأةُ: يبكونُ من الجوعِ، قال: فأيشٍ في هذا القِدْرِ؟ قالتْ: ماءٌ أُسَكِّتُهم به، أُوهمُهم أني أطبَخُ طعامًا حتى يناموا، واللهُ بيننَا وبينَ عمرَ، فقال: يرحمُك اللهُ! وما يُدري عمرُ بكم؟ قالت: أيتولى أمرَنا ويغفلَ عنا؟ فبكى عمرُ-رضي اللهُ عنه-.
ورجع مسرعًا، فأتى بدقيقٍ وشحمٍ، وقالَ لأسلمَ: احملْه على ظهري، قالَ: أنا أحملُه عنك يا أميرَ المؤمنينَ، فقال: أأنتَ تحملُ وِزري يومَ القيامةِ؟! فحمله حتى أتى المرأةَ، فجعل يطبخُ الطعامَ لهم، وجعلَ يَنْفُخُ تحتَ القِدرِ والدخانُ يتخللُ من لحيتِه، حتى نضجَ الطعامَ، فأنزل القدرَ، وأفرغَ منه في صحفةٍ لها، فأكلَ الصبيةُ حتى شبعوا، وجعلوا يضحكون ويتصارعون، فقالت المرأة: جزاك الله خيرًا، أنت أولى بهذا الأمرِ من عمرَ، فقال لها عمرُ: قولي خيرًا.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ: فلما رجعَ من الشامِ إلى المدينةِ انفردَ عن الناسِ ليتفقّدَ أحوالَ الرعيةِ، فمرّ بعجوزٍ في خِباء لها وما عرفتْه، فقالت: يا هذا، ما فعل عمرُ؟ قالَ: قد أقبلَ من الشامِ سالمًا، فقالتْ: لا جزاه اللهُ خيرًا، قال: ولمَ؟ قالتْ: لأنّه-والله-ما نالني من عَطائه منذ تولّى أمرَ المسلمين دينارٌ ولا درهمٌ! قال: وما يُدرِي عمرَ بحالِك وأنت في هذا المكانِ؟! فقالت: سبحانَ اللهِ! واللهِ ما ظننتُ أن أحدًا يتولى على النّاسِ، ولا يدري ما بين مشرِقها ومغرِبها، فبكى عمرُ وقالَ: واعُمَراه! كلُّ أحدٍ أفقهُ منك يا عمرُ، حتى العجائزُ.
ثم قالَ لها: يا أمةَ اللهِ! بكم تبيعيني ظلمَ عمرَ لك، وتقصيرَه في حقِك، فإني أرحمه مِنَ النّارِ، فقالت: لا تستهزئ بنا-يرحمُك الله-، فقال: لستُ بمستهزئٍ، فلم يزل بها حتى اشتَرَى ظلمَه وتقصيرَه في حقِها بخمسةٍ وعشرين دينارً ذهبًا من مالِه الخاصِ، فبينما هو كذلك إذ أقبلَ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ وعبدُالله بن مسعودٍ فقالا: السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنينَ، فوضعَت العجوزُ يدَها على رأسِها وقالت: واسوأتاه! شتمتُ أميرَ المؤمنين في وجهِه، فقال لها عمر: لا عليك يرحمُك اللهُ.
فكتبَ كتابًا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى به عمرُ من فُلانةَ ظُلامتها منذ وَليَ إلى يومِ كذا وكذا بخمسةٍ وعشرينَ دينارًا، فما تدّعي عند وقوفه في الحشر بين يدَي الله-تعالى-فعمرُ منه بريءٌ. شهدَ على ذلك عليٌ وابنُ مسعودٍ"، ثم أعطى الكتابَ أحدَهما وقال: "إذا أنا متُّ فاجعله في كفني ألقى به ربي".
لقد كانَ عمرُ معظِّما أمينًا لأموالِ المسلمينَ؛ لأنَّ المالَ العامَ مالُ اللهِ، لا يملكه أحدٌ، بل هو مِلكٌ لكلِ المسلمينَ، جاؤوا إلى عمرَ بمالٍ كثيرٍ من العراقِ فقيل: أدخِله بيتَ المالِ، فقال: لا وربِّ الكعبةِ، لا يُرى تحتَ سقفِه حتى أقسمَه بين المسلمينَ، هذا عدله في السراءِ والرخاءِ، فما حاله مع الرعيةِ في الضراءِ والشدةِ؟ هذا ما سنعرفه في حديث باقٍ في الخطبةِ القادمةِ إن شاءَ اللهُ.
اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا والمسلمينَ سيِئ الأخلاقِ والأعمالِ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وولاةَ أُمورِ المسلمينِ، وارزقهمْ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، أسألُك لي ولهم من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأُعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ.
المرفقات

ظل-تضييع-المال-العام-وقفة-على-شاطئ-الع-2

ظل-تضييع-المال-العام-وقفة-على-شاطئ-الع-2

المشاهدات 728 | التعليقات 0