في ظل الرحمن
ناصر محمد الأحمد
1437/10/21 - 2016/07/26 02:24AM
في ظل الرحمن
24/10/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: الأجواء حارّة، وكثير من الناس يشتكي الحرّ. وفي لهيب الشمس وسموم حرّها يُستطلب الظل وتُستجلب النفحات. هل تريد الظل يا عبدالله؟. فما أروع العدل حين يعلو على الجور. وما أعجب الشاب حينما ينتصر على الصبوة المتفتقة. ويا لعظم الحظ ووفرة التوفيق لمن أوقف قلبه فبات معلقاً في كل مسجد. وما أهنأ الرجلين إذ يتحابان في الله، فلا يجتمعا إلا عليه ولا يفترقا إلا عليه. ويا حبذا العفةُ والخشيةُ حينما تظهر المغريات. وما أجدى صدقة السر في إطفاء غضب الرب. وما أعذب الدموع الرقراقة في الخلوة.
أيها المسلمون: إن سنة المصطفى هي المنبع الثر للهدى والحق والنور، وهي المعين الذي لا ينضب، والحق الذي لا يعطب، وإن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله المنبعث من مشكاة النبوة، ليحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح النفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى ، وكلما ذكر كلام المصطفى فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح لا فلسفة فيه، يغلب الأثرة والشهوة والطمع.
روى البخاري ومسلم في صحيحيها من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
عباد الله: ما أحوجنا جميعاً إلى أن نستظل في ظل الرحمن، في يوم عصيب يعظم فيه الخطب، ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. رُحماك يا رب ثم رحماك! وعفوك يا الله.
الإمام العادل: ألا ما أحوج الأمة المسلمة في كل عصر وفي كل مصر إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه. يتعبّد رعيته بالعدل، والعدل هو صلاح العالم.
الإمام العادل: هو الذي يتّبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية، والرعية أبناؤه، يُعلّم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوياً حتى يأخذ الحق له.
وإن تحقيق العدل أمام الرغبات والمصالح والأهواء، أمر في غاية الصعوبة، إذ حلاوته مرة، وسهولته صعبة، وحينما يستطيع المرء تخطي تلك العقبات، كان معنى ذلك أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقاً لأن يكون واحداً من هؤلاء السبعة.
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فأرسل إلى الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: "إعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وهو كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويُكِنّها من أذى الحرّ والقرّ، وهو كالأم الشفيقة، البرّة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تَصلُح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده". اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
وشاب نشأ في عبادة الله: إن الشاب المسلم الذي يستحق أن يكون واحداً من هؤلاء السبعة، هو ذاك الفتى اليافع، الذي تعلّق قلبه بربه، وما زال شاباً، تتجاذبه مزالق الرغبات النفسية ومتطلبات الجسد، ترق عنده الحياة، فتسحره بالنظرات المغرية، وتجمع له لذائذ الدنيا في لحظة مسكرة، أو شبهة عارضة، الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوٰجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه:131]. الشاب شأنه شأن غيره من الشباب، الذين تعتريهم في هذه السنّ، أنواع من التصرفات غير المتزنة، والذين هم أحرى في أن يقعوا فريسة لمثل هذه الدركات غير المسؤولة.
إن الشباب مرحلة هي من أخطر مراحل الحياة، لأنها مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، ولما كان الشباب من العمر، وسيُسأل الإنسان عن عمره، فإن رسول الله خص الشباب في قوله: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وذكر منها: وعن شبابه فيم أبلاه؟" رواه الترمذي.
شاب نشأ في عبادة الله: فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والعضو الفعّال في الجمعيات والمنتديات الخيرية: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى) [الكهف:13]. (قَالُواْ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ، قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرٰهِيمُ) [الأنبياء:59،60]. (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَٰهَا عَن نَّفْسِهِ) [يوسف:30].
إن مما يساعد الشباب على عبادة ربه، صفاء المحضَن، ممثًلا في البيت والمدرسة والمجتمع والمحاضن التربوية، وكذا قيام المحضن بواجبه من توعية وإرشاد، حتى ينشأ الشاب على عبادة ربه "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
ولن يستغني شاب عَبَدَ رَبّهُ، عن مطالعات حثيثة، في سير أسلافه إبّان شبابهم، كابن الزبير وابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأسامة وأنس، والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. وجدير بشاب هذا شأنه، أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
وشاب قلبه معلق في المساجد: المساجد بيوت الله، وأماكن عبادته، وهي خير البقاع، يُكرِم الله عمّارها وزوّاره فيها، ويثيب على الخُطا إليها: (فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَاء ٱلزَّكَوٰةِ يَخَٰفُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلاْبْصَارُ) [النور:36، 37]. ومن هنا كان فرح الباري جل وعلا بزوار المساجد. قال رسول الله : "ما توطّن رجل المساجد للصلاة والذكر، إلا تبشبش الله تعالى إليه، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" رواه ابن ماجه وابن خزيمة وإسناده صحيح.
ولم يكن للمسلمين في القرون الأولى من معاهد ولا مدارس إلا المساجد، ناهيكم عن خمس صلوات في اليوم والليلة. ففي المسجد يُدرّس القرآن وتفسيره، والسنة وفقهُها، واللغة وأصول الدين. وأين مجلس إمام دار الهجرة، والحسن البصري، وأبي حنيفة والشافعي وأحمد إن لم يكن في المسجد. أما إنه لو رُجع لبيوت الله ما كانت عليه من إقامة الشعائر واجتماع المسلمين فيها، لتعلقت بها قلوب الكثيرين ممن أعرضوا عنها واستخفوا بشأنها: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ) [البقرة:114]. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه: إن المؤمن في هذه الحياة، يجد صعوبة بالغة في أن يعيش وحيداً فريداً دون صديق أو مؤانس، صديق يناجيه، وخِلِّ يلاقيه ويواسيه، يشاطره مسرته، ويشاركه مساءته. لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر خداجاً غيرُ تمام، تقوم لغرَض وتقعد لعرَض، والإسلام دين الأخوة والمحبة والتآلف: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال:63]. الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، به تقع الألفة، المتحابون في الله دائمة صحبتهم، باقية مودتهم، لا تزيدها الأيام إلا وثوقاً وإحكاما، لخلوصها من الإثم والأغراض الدنيئة: (ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]. قال رسول الله : "أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله"، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى إلى النبي فقال: يا رسول الله: ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم! انعتهم لنا. فسُرّ وجه رسول الله بسؤال الأعرابي فقال: "هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيُجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" رواه الإمام أحمد.
اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله: إذا ما تيسرت للمسلم سبل الغواية، ودعت إليها الدواعي والمغريات دعّا، فهو بحاجة ماسة إلى أن يرى برهان ربه، وأن يسطع نور الهداية في فؤاده، وليس هناك امتحان أقسى من امتحان يتغلب فيه المرء على صبوته وغريزته، تَبذُل له حسناءُ نفسها، وهو في فحولة الرجولة. وهي في حالة رفيعة من الجمال والجاه، فاتنة متعرضة، فحينها لا ينبغي أن ييأس الرجل، إذ إن مطارقُ الخوفَ من الله ومراقبته، تعينه على أن يرى برهان ربه، وتذكّره بقوله تعالى عن يوسف: (وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ، قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ) [يوسف:23]. قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ، فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ) [النازعات:40، 41].
اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
فاتقوا الله عباد الله، وتخلقوا بأخلاق رسول الله، واهتدوا بهديه تفلحوا، ويتحقق لكم ما وعدكم به من الاستظلال بظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه: اعلموا أن من الناس، من أنعم الله عليه بشيء من المال، فما أنكر فضل الله عليه، بل هو ينفق بسخاء، ويتسلل إلى المساكين لواذا، يعلم أن من الفقراء من يحرجه علنية العطاء، فذاك رجل تخطى عقبة الجشع، أنقذه الله ممن عبدوا الدينار والدرهم والريال.
إن النفس بطبعها تميل إلى إبراز عملها، لا سيما الصدقة، كل هذا لتُحمد، فإذا ما جاهد المرء نفسه، حُقّ له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال ابن عائشة، قال أبي: "سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ".
اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه: ما أسعدها من لحظات، يجلسها المرء خالياً فيها مع نفسه، يناجي ربه وخالقه، فتنـزل دمعه عذباً صافياً خالياً من لوثة الرياء، وإن نيران المعاصي التي تأتي على قلب المسلم، فتحيله إلى فحم أسود كالكوز مجخيا، لا يطفئها إلا تلك الدموع التي تنهمر على إثر ذكر الخالق وخشيته، روى النسائي وأحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك". لابد من الخوف والبكاء، إما في زاوية التعبد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك أيها المسلم بنار الدمع على التقصير، وإلا فاعلم أن نار جهنم أشدُّ حرا: (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [التوبة:82].
نَزِفَ البكاءُ دموعَ عينك فَاسْتَعِرْ عيناً لغيرك دمعُها مدرارُ
من ذا يعيرك عينَه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تُعار؟
اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
اللهم ..