(في ظلال سورة الحجرات )اللامبالاة بالاستهزاء و السخرية من الأخرين
الشيخ السيد مراد سلامة
أما بعد:
إخوة الإسلام في زمن العولمة و القنوات الفضائية و الشبكات العنكبوتية و التمدن ظهرت اللامبالاة في ثياب عصرية بالية وسار الناس لا يبالون بكثير من أمور الدين الحنيف فاصبح الحجاب بدعة و تخلف ورجعية و اصبح الربا فائدة و اصبح الجهاد ارهبا و أصبح الذئب راعيا و الخصم قاضيا و نطق الرويبضة و أصبح الاستهزاء و السخرية فنا يخدم و يعتنى به وأصبح يدرس على هؤلاء السفهاء و أصبحوا يقدمون مكافئات لمن يحسن التهريج و الاستهزاء بالأخرين
و العجب كل العجب أنك ترى كذبة يسخرون من الصادقين
و ترى خونة يسخرون من الأمناء
و ترى جبناء يسخرون بالشجعاء
و ترى منافقين يسخرون من المخلصين الصادقين
و لله در القائل
فأصبح أصحاب العفن الفني يسخرون من العلماء و الخلفاء و الأمراء
و أصبح هؤلاء يسخرون بكل شيء فهذا يسخر بالحجاب و ذك يسخر باللحية وهذا يسخر بالمؤمنين و المؤمنات
هيا أيها الإخوة لنتعرف على تلك الكبيرة التي لا يبالي به بعض الناس و يقعون فيها بقصد أو بغير قصد
تعريف الاستهزاء و السخرية اعلموا علمني الله و إياكم: أنَّ معنى السخرية والاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقايص على من يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء
اعلم بارك الله فيك :أن السخرية تنافي ما يوجبه الحق، وهي ظلم قبيح من الإنسان لأخيه الإنسان، وعدوان على كرامته، وإيذاء لنفسه وقلبه، ومن آثارها أنها تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم، وتبذر بذور العداوة والبغضاء، وتولد الرغبة بالانتقام، ثم أعمال الانتقام، ما استطاع المظلوم بها إلى ذلك سبيلًا)
لذا كان لزاما و أجل مسمى أن نقف مع تلك الظاهر من خلال قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].
صور من اللامبالاة بالاستهزاء و السخرية
أيها الإخوة الأحباب: إن السخرية و الاستهزاء قد أخذت أشكالا عديدة منها ما يخرج المرء عن الإسلام و منها ما هو كبيرة من الكبائر التي نهى الله تعالى عنها و إليكم البيان من كتاب الرحمن وسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم :
الصورة الأولى الاستهزاء بالله و برسوله: و تلك هي الطامة الكبرى أيها الإخوة الأحباب أن نرى أناسا من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا و يدينون بديننا و مع ذلك يسخرون بزعم حرية الفن و حرية الفكر و حرية الرأي من شعائر الدين و من سنن سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم- ولهؤلاء سلف ذكرهم الله تعالى في كتابة قال تعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [التوبة: 64 - 66]
في هذه الآيات: يخبر تعالى عن المنافقين في سخريتهم من بعض المؤمنين، فإن سألتهم عن سبب هذا السلوك الساخر منهم لقالوا إنما كنا نخوض ونلعب، فانتصر الله لأوليائه منهم مخبرًا أن السخرية من المؤمنين هي استهزاء بالله وآياته ورسوله، وأن الاستهزاء بشيء من الدين كفر، وأنه إن يُعْفَ عن التائبين فإنّه لا يُعفى عن المصرين المستكبرين.
إن المنافقين والمنافقات بعضهم أولياء بعض، قد تواصوا بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل والشح، وقد نسوا حق الله عليهم فخذلهم ربهم وأكثرهم فاسقون.
ثم يوم القيامة يحشرهم مع الكفار في نار جهنم خالدين فيها مطرودين من رحمة الله في عذاب مقيم.
عن عبد الله بن عمر قال: [قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء لا أرغبَ بطونًا ولا أكذبَ ألسنة ولا أجبنَ عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن. قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقًا بِحَقَبِ ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبُهُ الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}] ([1]).
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾. وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [الرعد: 32].
وتأملوا في عاقبة المستهزئ بأحاديث و سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
قال داود السجستاني : كان في أصحاب الحديث رجل خليع إلى أن سمع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع فجعل في عقبيه مسامير حديد وقال أريد أن أطأ أجنحة الملائكة فأصابه أكلة في رجليه.
وذكر الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي رحمه الله في كتابه شرح صحيح مسلم هذه الحكاية فيها وشلت رجلاه ويداه وسائر أعضائه. قال وقرأت في بعض الحكايات أن بعض المبتدعة حين سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم) إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإِناء حتى يغسلها فإنه لا يدري أين باتت يده (. قال ذلك المبتدع على سبيل التهكم أنا أدري أين باتت يدي في الفراش فأصبح وقد أدخل يده في دبره إلى ذراعه. قال التيمي فليتق المرء الاستحفاف بالسنن ومواضع التوقيف فانظر كيف وصل إليهما شؤم فعلهما.([2])
الصورة الثانية الاستهزاء و السخرية بالمؤمنين و المؤمنات و الله تعالى يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].
فاليوم ترى منافقين يسخرون من مؤمنين و علمانيين يسخرون من دعاة مخلصين فيا سبحان الله منافق يضلل عالما و مجرم يضلل تقي تراهم على الشاشات يسخرون من حجاب المرأة وعفتها وحيائها، ويعتبرون ذلك رمزا للتخلف والرجعية، وما أرادوا من ذلك إلا لتخرج المرأة عن عفافها وشرفها، فتكون لقمة سهلة لذئاب البشر المسعورة، وحتى يتحول هذا المجتمع المحافظ على دينه وقيمه وأخلاقه، إلى مجتمع وحشي يرزح تحت وطأة الإباحية والسّعار الجنسي، وتدمير الأسرة ومحاربة الفضيلة والعفة.
الصورة الثالثة الاستهزاء بأهل الفضل : ويسخر منهم إلا مريض القلب عديم الإيمان. قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ [البقرة:212]. وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [المطَّففين:29-30].
وقد بين الله تعالى أن السخرية من المؤمنين صفة من صفات المنافقين، فقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
أيها الإخوة إن من علامات الإسلام أن يسلم الناس من لسانك و يدك وألا تظلمه وألا تحقره أبي هُرَيْرَة «لَا تدابروا وَلَا تباغضوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تقاطعوا وَكُونُوا عباد الله إخْوَانًا؛ الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يَظْلمه وَلَا يحرمه وَلَا يَخْذُلهُ؛ بِحَسب الْمَرْء من الشَّرّ أَن يحقر أَخَاهُ الْمُسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »([3])
السخرية من الناس لعيب في خِلقتِهم وصورتهم:
أيها الإخوة من تلك الصور الاستهزاء السخرية من الناس لعيب في خلقتهم و صورتهم ولقد عد ذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- ذلك من خصال الجاهلية عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» ([4])
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ تَعْنِى قَصِيرَةً. فَقَالَ « لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ». قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ « مَا أُحِبُّ أَنِّى حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا ». ([5]) أي لو خالطت هذه الكلمة ماء البحر لتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها. والحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.
- الاستهزاء بالمقصّرين المذنبين من المسلمين:
و من صور الاستهزاء و السخرية سخرية بعض أهل الطاعة من أهل المعصية و احتقارهم وهذ من الغرور و العجب بالطاعة فلا يوجد أحد معصوم من الخطأ بعد رسول الله صلى الله عليه و الله تعالى نهانا عن تزكية أنفسنا فقال سبحانه : ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾. أي لا تمدحوها معجبين بها.
فأنت إذا رأيت رجلاً مبتلًى، فاحمد اللهَ على العافية، واسأل اللهَ أن يعافيه بدلاً من أن تسخَر منه، فيعافيه الله ويبتليك، وكما قيل: "لا تسخر من أخيك، فيعافيه اللهُ ويبتليك".
وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "البلاءُ موكَّلٌ بالقول، لو سخرتُ من كلب لخشيتُ أن أُحوَّل كلبًا ([6])
وعن إبراهيم النخَعي رحمه الله أنه قال: "إني لأرى الشيءَ ممَّا يُعاب، ما يمنعني من غيبتِه إلاَّ مخافة أن أُبتَلَى به"([7])
وعن الأعمش رحمه الله قال: "سمعت إبراهيم يقول: "إني لأرى الشيءَ أكرهُه، فما يمنعني أن أتكلَّم فيه إلاَّ مخافة أن أُبتَلَى بمثلِه"([8])
وقال عمرو بن شرحبيل رحمه الله: "لو رأيتُ رجلاً يرضع عنزًا فضحكتُ منه، لخشيتُ أن أصنَع مثل الذي صنع"([9])
وقال ابن سرين رحمه الله: "عَيَّرتُ رجلاً، وقلتُ: يا مفلِس، فأفلستُ بعد أربعين سنة"([10])
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: "كانوا يقولون: مَن رمى أخاه بذنبٍ قد تاب منه، لم يمُت حتى يَبتليه الله به"([11]).
وكان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: "واللهِ ما يحلُّ لك أن تؤذي كلبًا أو خنزيرًا بغير حقٍّ، فكيف تؤذي مسلمًا؟!" ([12])
عقوبات المستهزئين و الساخرين
أولا: أن من سخر سخر الله تعالى منه و الجزاء من جنس العمل
قال الله تعالى {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]
يقول الشيخ محمد رشيد رضا –رحمه الله- هذا التعبير يسمى مشاكلة، وما هو إلا العدل في جزاء المماثلة، أي: جزاهم بمثل ذنبهم فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين، بفضيحته لهم في هذه السورة ببيان هذا الخزي وغيره من مخازيهم وعيوبهم، ولهم فوقه عذاب أليم ([13])
ثانيا أن من سخر من المؤمنين سخر منه المؤمنون يوم القيامة
.. { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } [المطففين: 29 - 36]
فهذا مشهد من مشاهد الجزاء من جنس العمل ايضا ايها الاخوة الاحباب فهؤلاء الكفار قديما و جديثا و هؤلاء المجرمون قديما و حديثا يسخرون و يستهزءون من اهل الايمان و اهل الطاعة يلمزونهم بالقول و يضحكون عليهم و على ثيابهم و عباداتهم فيجازيهم الله تعالى من جنس عملهم يوم القيامة يوم الحسرة و الندامة فيدخل هءلاء المجرمون نار جهنم و يدخل هؤلاء المؤمنون الجنة و يتراءى اهل الجنة لاهل النار واهل النار لاهل الجنة و عندها يذكر المؤمنون هؤلاء السفهاء الذين طالما اذوهم و ضحكوا منهم في الدنيا فيضحك المنعمون و هم يجلسون على الارائك
{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } أي: هل جوزوا من جنس عملهم؟
فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة، ورأوهم في العذاب والنكال، الذي هو عقوبة الغي والضلال. نعم، ثوبوا ما كانوا يفعلون، عدلا من الله وحكمة، والله عليم حكيم([14])
ثالثا:عظم ثواب المؤمنين وحسرة وندامة المستهزئين أيها الإخوة الأحباب اصبروا و صابروا على ما انتم عليه من حق ولا يضركم استهزاء و سخرية السفهاء فالعاقبة لأهل الإيمان و الفوز والفلاح لهم في الأخرة قال الله تعالى { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}
يقول السعدي رحمه الله-: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم.
فهؤلاء سادات الناس وفضلائهم، { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ } أيها الكفرة الأنذال ناقصو العقول والأحلام { سِخْرِيًّا } تهزءون بهم وتحتقرونهم، حتى اشتغلتم بذلك السفه. { حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } وهذا الذي أوجب لهم نسيان الذكر، اشتغالهم بالاستهزاء بهم، كما أن نسيانهم للذكر، يحثهم على الاستهزاء، فكل من الأمرين يمد الآخر، فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!
{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا } على طاعتي، وعلى أذاكم، حتى وصلوا إلي. { أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } بالنعيم المقيم، والنجاة من الجحيم، كما قال في الآية الأخرى: { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } الآيات(([15])
[1] - أخرجه ابن أبي حاتم ورجاله رجال الصحيح، إلا هشام بن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في الميزان، وأخرج الطبري - في التفسير - نحوه (16928)، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - سورة التوبة، آية (65) -
[2] - بستان العارفين للنووي (ص: 50)
[3] - أخرجه مسلم (1663) (42) ، وأبو داود (3846)
[4] - أخرجه مسلم في الإيمان والنذور باب إطعام المملوك مما يأكل رقم 1661
[5] - أخرجه الترمذي (2674) صحيح الجامع: 5140 , وصحيح الترغيب والترهيب: 2834
[6] -(سير أعلام النبلاء: 1/ 496)، (تفسير القرطبي: 16/ 325).
[7] -(رواه هناد في الزهد: 1192).
[8] -(رواه البيهقي في الشعب: 5/ 315، رقم 6775).
[9] -(تفسير القرطبي: 16/ 325).
[10] -(صيد الخاطر: ص44).
[11] -(فيض القدير: 6/ 183)
[12] -(سير أعلام النبلاء: 8/ 427).
[13] -( تفسير المنار (10/ 487)
[14] - تفسير السعدي (ص: 916)
[15] - تفسير السعدي (ص: 560)
المرفقات
اللامبالاة-بالاستهزاء-و-السخرية
اللامبالاة-بالاستهزاء-و-السخرية