في دوحة اسم الله الحكيم ...

عبدالرحمن السحيم
1445/04/25 - 2023/11/09 15:26PM

الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى. أما بعد،

فاتقوا الله عباد الله فإن خير الزاد التقوى، وَاحذَرُوا الذُّنُوبَ وَالمَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَعظَمُ القَوَاطِعِ وَالمَوَانِعِ، وَتَذَكَّرُوا يَومًا يُوضَعُ فِيهِ المَرءُ في قَبرِهِ وَحِيدًا فَرِيدًا، فَلا يُنِيرُ ظُلمتَهُ وَلا يُزِيلُ وَحشَتَهُ، إِلاَّ صَالِحُ عَمَلِهِ. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

عباد الله: أسماء الله كلها حسنى، وصفاته كلها عليا، أنزل الله كتابه، وأودع فيه جملة من أسمائه وصفاته، وأخفى بعضاً فاستأثر به في علم الغيب عنده، والخَلق -حين يتأملون في أسماء الله- فإنها تُبين لهم من الحِكَم والمعاني، وتُورثهم من الآثار والعبر ما يغنيهم عن كثير من المقال والخطب.

ومن أحصى أسماء الله فعرف معناها وعمل بمقتضاها دخل الجنة قاله -صلى الله عليه وسلم-، وكم تحتاج القلوب للعيش مع أسماء الله؛ ليَقوى الإيمان، وليُعظَّم الرحمن، وليَعرفَ قدرَهُ الإنسان، فدعونا اليوم نقف مع واحدٍ من هذه الأسماء العظيمة للملك العظيم،.  إنه اسم الحكيم، اسمٌ ساقه الله في القرآن في واحد وتسعين موضعًا، وفي جميع المواضع يقرنه باسم آخَر من أسماء الله تعالى، فتارة مع العزيز، وتارة مع العليم، وتارة مع الخبير، أو مع غيرها من أسماء الله الحسنى.

والحكيم: الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها مواقعها، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من استحق، ولا يقدر إلا ما فيه حكمة وهدف، فأفعاله سديدة، وصنعه متقن، فلا يُقدِّر شيئاً عبثاً، ولا يفعل لغير حكمة؛ بل كل ذلك بحكمة وعلم، وإن جهلها الخلق.

خلق الخلق لحكمة، وقدّر الموت والحياة، والجنة والنار، لحكمة شريفة وهي العبادة، فيتبين في الميدان المطيعُ من العاصي، والشكورُ من الكفور، ومَن ظن أنّ الله يخلق بلا حكمة ويُقدِّر بلا هدف ويأمر بلا مصلحة فقد ضل وما هدى، وقد قال المولى: (أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) وقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115].

خلق السماواتِ والأرضَ فلا ترى فيها عوجاً، وأوجد الإنسان والمخلوقات فأبدع صنعاً، يدبر الكون بانتظام، فيعطي هذا ويمنع هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا بحكمته (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)

أرزاقٌ مكفولة، وأعمال مقدرة، وخلائق مختلفة، وكونٌ محكمٌ لا يختل لحظة واحدة، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الحكيم يُقدّرُ على العبدِ المصيبةَ والبلاء، ويُحوّل حال الرخاء، فتحل الأحزان ليس ذلك عبثاً؛ بل لحكم عظمى، وما الأجر والتوبة والاعتبار إلا شيء من هذه الحكم.

أيها الكرام: ومن حكمة الحكيم أن فاضل بين الناس فوفّق قوماً للدين، ووكَل قوماً لأنفسهم فاختاروا الكفر، ولا يعجز عن هدايتهم، فلو شاء الله لهدى الناس أجمعين، لكنه لم يُقدّر ذلك لحكمته ولتظهر آثارُ جميع أسمائه الحسنى، قال ابن القيم رحمه الله: في خلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله، فالله -سبحانه-لم يخلقه عبثا، ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكَهم، فكم لله في خلقه من حكمة باهرة، وحجة قاهرة، وآية ظاهرة، ونعمة سابغة؛ وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان ففي إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خير من تفويتها.  ومن حِكم إيجاد إبليس أنه -سبحانه- جعله عبرة لمن خالف أمره، وتكبر عن طاعته، وأصر على معصيته، وأنه محكٌّ امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهُم من طيبهم، ومنها: أنه -سبحانه- يحب أن يُظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده، فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من حكمة وحمد!.)

عباد الله: وحين يستقر في النفوس اسم الله الحكيم، فإن قلب المؤمن حينها يحب ربه الحكيم، ويكون أعظم خشية وتوكلا وتعلقا به.

وحين نتأمل في اسم الله الحكيم فإن العبد يُسلّم لدين الله ويوقن أن أوامر الله لها حكمة وإن غابت عنا، وكم لله من حِكمٍ في العبادات وإن شقت،

وحين ينهى الله عن أمر فمن وراء ذلك الحِكم، وكم تزيغ المجتمعات حين لا ترتدع عن نواهي ربها، وهو ما نهى عنها إلا لعلمه وحكمته، وما تحريم الزنا والشذوذ والخمر والخنزير إلا نماذج تجني المجتمعات من ارتكابها الويلات، ولكنّ مطموس القلب ربما ظن النهي من الله بلا هدف، ومع ما في المنهيات من أمورٍ حَكَم الله لأجلها بالنهي؛ فإن من وراء ذلك أيضاً التعبد لله بتركها، ولا غرو! فمن أمر بهذا ونهى عن هذا هو الحكيم العليم, فسلم لشرع الله وإن غابت عن عقلك وقدرتك القاصرة الحكمة البالغة فإنما أنت عبدٌ لله، مأمورٌ بطاعته والتسليم له، وهو الرب الحكيم.

عباد الله: وإيماننا بأن الله حكيم يجعلنا نوقن بأن له الحكمةَ البالغة في أقداره وقضائه، إما في الحال أو في الآجال والمآل، ولربما كره البعض شيئًا من القدر، وتتجلى الأمور ويعلم حينها أن ما قدّره الله هو الخير، ولو كُشف للعبد عن المستور لم يختر غير المقدور، وقد قال الله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)  فإذا تأخر يا عبدالله شفاء أو فرج أو نصر أو رزق مع بذلك للأسباب فلا تيأس ولا تقنط، وثِق برب الأرباب وسلِّم الأمر لمولاك، وارض بتقديره، وأيقن بحكمته، فلن يُقدّر إلا الخير، ولن يأمر إلا بالأصلح، ولن ينهى إلَّا عمَّا يضر، وله الحكمة البالغة، والقدرة الباهرة.       أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.  أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

عباد الله: كما أن الحكمة من صفات الله العلى فهي أيضا من الصفات الحسنة التي امتدحها الله وامتن بها بعض خلقه بقوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) فحري بالمؤمن أن يتحلى بها، وقد قيل في تعريف الحكمة: هي وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، بفعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. وأسعد الناس بها أكملهم معرفة بالله وتعظيما له وإيماناً به سبحانه وبالنبي صلى الله عليه وسلم، واتباعاً له.

ألا وإن من أمارات الحكمة أن يكون المرء نبيها متأنيا رشيداً في تصرفاته كلها، فيبدأ بالأهم فالأهم، ويأخذ بأعظم المصلحتين، ويرتكب أدنى المفسدتين، وأن يتحلى بالحلم والأناة فلا يدخل في أمر حتى ينظر في عواقبه، ومن الحكمة أن يطلب المرء السلامة وأسبابها، ويتوقى أسباب الضرر في دينه ودنياه، فمن الحكمة: أن لا تُقدم يا عبدالله عاجل الدنيا الفاني على نعيم الآخرة الباقي، وألا تطغى عند النعمة، ولا تسخط عند النقمة، بل تتلمس المنح في طي المحن، وتتيقن بأن تقدير الله لحكمة، فلا يرين منك سخطاً ولا اعتراضاً، قف عندما نهى، وأدِّ ما طلب، وهو الحكيم -سبحانه- فلا يخلق مخلوق، ولا يتحرك ساكن، ولا يسكن متحرك إلا بحكمة، أليس الله بأحكم الحاكمين؟ بلى! ونحن على ذلك من الشاهدين.

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.  اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين، وكن لأهلنا في غزة ناصرا ومعينًا ومؤيدًا وظهيرًا، وعليك بعدوك وعدوهم من الصهاينة وأعوانهم يا رب العالمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،

اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

اللَّهُمَّ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إنَّكَ كُنْتَ غَفَّاراً، فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَاراً.

سُبْحَانَ رَبِّنا رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

المرفقات

1699532781_اسم الله الحكيم، وصفة الحكمة.doc

1699532782_اسم الله الحكيم، وصفة الحكمة..pdf

المشاهدات 605 | التعليقات 0