في الحث على الصبر منقولة من خطبة للشيخ الحقيل مع تصرف وزيادة
عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/07/09 - 2017/04/06 16:02PM
خطبةالجمعة
في الحث على الصبر
منقولة من خطبة للشيخ الحقيل
مع تصرف وزيادة لأخيكم
عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله الصبور الشكور، شملت قدرته كل مخلوق، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعرف الخلق بربه، وأقومهم بخشيته، وأنصحهم لأمته، وأصبرهم لحكمه، وأشكَرهم لنعمه. فصلى الله وملائكته وأنبياؤه عليه، كما وَحَّدَ الله وعَرَّف به ودعا إليه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ورضي الله عن جميع أصحابه وأتباعه الحامدين لربهم على السراء والضراء، والشدة والرخاء.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها الناس، روى أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنهما أنه في يوم من الأيام في المدينة، جاء ناس من الأنصار إلى النبي يسألونه المال فأعطاهم عليه السلام، ثم سألوه فأعطاهم، ومازال يعطيهم حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ((ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يتصبّره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر)). هذا الحديث متفق عليه
نعم إخوة الإيمان إنه الصبر، هذا مقام الأنبياء والمرسلين، ومنازل المتقين، وحلية أولياء الله المخلصين، وهو أهم ما نحتاج إليه نحن في هذا العصر الذي كثرت فيه المصائب وتعددت، وقلّ معها صبر الناس على ما أصابهم به الله تعالى من المصيبة، ولو يعلم المصابون ما ينالون من الأجر الكبير إن هم صبروا، لتمنوا أن مصيبتهم أشد بلاء، وأعظم نكاء.
واعلموا يا عباد الله أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبر يصبره الله، والصبر ضياء، بالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب: أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً [الفرقان:75]،
وقال تعالى عن أهل الجنة: سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ [الرعد:24]، هذا هو الصبر، وتلك منزلته،
عباد الله / إننا نعيش في عصر الفتن والاضطرابات وكثرة المشاكل، والتي تجعل الحليم حيران، وقد تؤدي ببعض الناس إلى اليأس والقنوط؛ لعدم تحملهم لهذه الأحداث.
واليأس والقنوط معناهما واحد، ولقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى لينفر الناس منهما لأنهما من كبائر الذنوب، قال تعالى: ((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)) وروح الله رحمته ورجاء الفرج عنده. وقال في القنوط : (( قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ))
فبين سبحانه بأن المؤمن لا يكون يائسًا قانطًا، بل يجب عليه أن يكون على الدوام مؤمّلاً راجيًا رحمة الله وعفوه، عاملاً بما أمره الله به، ويكافح في مقاومة الشدائد، ويصبر على مقدور الله،
ولا يشتكي لأحد. ونحن اليوم كمسلمين في أمس الحاجة للصبر لكي نعيش سعداء مطمئنين في عصرنا هذا المزعج، والذي لا تسمع فيه إلا ما يُحزن،
والصبر عدة لازمة لكل حي؛ لأن الحياة لا تخلو من بلاء، وقد قيل في منثور الحِكَم: من أحب البقاء، فليُعِد للمصائب قلبًا صبورًا.
وقال ابن عباس: أفضل العدة الصبر على الشدة. فمن حسن التوفيق وأمارات السعادة: الصبر على الملمات،
عباد الله والمكروه قد يأتي بالمحبوب، والمرغوب قد يأتي بالمكروه، فلا تأمن أن توافيك المضرة من جانب المسرة،
ولا تيأس أن تأتيك المسرة من جانب المضرة، قال عز وجل: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
فوطّن نفسك على المصائب قبل وقوعها، ليهن عليك وقعها، ولا تجزع بالمصائب، فللبلايا أمد محدود عند الله، ولا تسخط بالمقال، فرب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده ولا ينطق بالشكوى لسانه، وخفف المصاب على نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر، لتذهب المحن بلا شكوى،
وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجَلَد، والصابرون مجزيون بخير الثواب، وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[النحل:96]، وأجورهم مضاعفة، أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ [القصص:54]،
عبد الله فلا تضيّع زمانك بهمّك بما ضمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وإذا أغلق عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه.
وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي في النار الخليل، وأضجِع للذبح إسماعيل، وألقي في بطن الحوت يونس، وقاسى الضر أيوب، وبيع بثمن بخس يوسف، وألقي في الجب إفكاً، وفي السجن ظلماً، وعالج أنواع الأذى نبينا محمد ، وأنت على سنة الابتلاء سائر، والدنيا لم تصفُ لأحد، ولو نال منها ما عساه أن ينال،
يقول المصطفى : ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) رواه البخاري
قال بعض أهل العلم: من خلقه الله للجنة لم تزل تأتيه المكاره، والمصيبة حقاً إنما هي المصيبة في الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية، فيها رفع الدرجات، وحط السيئات، وكل نعمة لا تُقرّب من الله فهي بلية، والمصاب من حُرِم الثواب، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا،
عباد الله قصَّ الله تعالى أخبار صبر الأنبياء -عليهم السلام- للتأسي بهم في ذلك؛
ففي صبر أيوب على مرضه الشديد الطويل قال الله تعالى فيه:
(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً) [ص:44]،
وفي صبر إسماعيل وهو يقدم للذبح: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) [الصفات:102]،
وفي صبر يعقوب على فقد ولده: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف:18]،
وفي صبر يوسف على ما ناله من البلاء العظيم: (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90].
وقص الله تعالى ذلك على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ليثبت ويصبر: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام: 34]،
فحقق -صلى الله عليه وسلم- أعلى درجات الصبر، وتحمل في سبيل الله تعالى أنواع الأذى، وكل ما قص الله تعالى علينا من أنواع الابتلاءات التي ابتليت بها الرسل فإن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد ابتلي بجميعها وبما هو أشد منها؛ فصبر صبرًا جميلاً لا جزع فيه ولا سخط ولا شكاية.
لقد صبر -صلى الله عليه وسلم- على أذى المشركين في مكة، وعلى أذى اليهود والمنافقين في المدينة، وكل هذه الطوائف الثلاث حاولوا قتله غير مرة، وصبر -صلى الله عليه وسلم- على الابتلاءات العظيمة التي ابتُلي بها في نفسه وأهله وولده وقرابته، وصبر على شدة الفاقة، وإلحاح الحاجة، وكان ابتلاؤه منذ نشأته -صلى الله عليه وسلم-.
لقد لازمته الابتلاءات منذ صغره فولد يتيمًا، ونشأ فقيرًا، وفجع بوالدته طفلاً لم يتجاوز ست سنوات، فلم ينسها قط، والطفل لا ينسى فَقْدَ أمه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبرَ أمه فبكى وأبكى من حوله". رواه مسلمٌ.
ثم فجع بجده وهو ابن ثماني سنوات، فأعاله عمه الفقير أبو طالب فضمه إلى بنيه، فأعانه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو طفلٌ برعي غنم أهل مكة على قراريط.
هذا اليتيم الفقير أراد الله تعالى أن يكون خاتم المرسلين، وخيره بأن يكون ملكًا رسولاً، أو عبدًا رسولاً، فاختار الثاني.
ولما بُعث بالرسالة وآذاه المكذبون فُجع بموت المدافع عنه عمه أبي طالب، وبموت المواسية له زوجه خديجة -رضي الله عنها- في عام واحد سُمِّي عام الحزن.
لقد فُجِع -صلى الله عليه وسلم- في قرابته وأهل بيته كأشد ما يفجع أحدٌ في أهله، فتتابع موتهم عليه منذ صغره -صلى الله عليه وسلم-، ورزق سبعةً من الولد: القاسم وعبد الله وإبراهيم ورقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، ماتوا كلهم تباعًا أمامه إلا فاطمة فماتت بعده، ودخل -صلى الله عليه وسلم- على ابنه إبراهيم وهو في النزع فأخذه، فقبله وشمه... وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله، فقال: "يا ابن عوف: إنها رحمةٌ"، ثم أتبعها بأخرى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك -يا إبراهيم- لمحزونون". رواه الشيخان.
وصبر -صلى الله عليه وسلم- على قلة ذات اليد، وعانى شظف العيش، ووجد ألم الحرمان، وأحسَّ بقرص الجوع، أخبر عنه بذلك ألصق الناس به
فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إن كنَّا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلَّة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نارٌ"، وقالت: "ما أكل آل محمد -صلى الله عليه وسلم- أكلتين في يوم إلا إحداهما تمرٌ". رواهما البخاري. وقالت: "ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض". متفقٌ عليه.
وقالت: "وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين". رواه مسلمٌ.
وقال خادمه أنسٌ -رضي الله عنه-: "ما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رغيفًا مرققًا حتى لحق بالله، ولا رأى شاةً سميطًا بعينه قط، أي: شاةً مشويةً". رواه البخاري.
وأخبر ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاءً"، قال: "وكان عامة خبزهم خبز الشعير". رواه أحمد.
وقال النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-: "لقد رأيت نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه". رواه مسلمٌ. وفي رواية لأحمد: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظل اليوم يَلْتَوِي، ما يجد دقلاً يملأ به بطنه».
مع أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الطعام الطيب، والشراب الطيب، لكنه لا يجده من قلة ذات اليد؛ فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الحلواء والعسل، ويحب الذراع من اللحم، ويتتبع الدباء، وهي التي تسمى اليقطين أو القرع.
وذات مرة أتته ابنته فاطمة -رضي الله عنها- بكسرة فقال: "ما هذه؟!"، قالت: قرصٌ خبزته، فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، قال: "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام". رواه الطبراني.
وكان مرضه أشد من مرض غيره، وحُمَّاه أحر من حُمَّى سواه، وصداعه ليس كصداع الناس، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله: إنك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، فقلت: ذلك أن لك أجرين. متفقٌ عليه.
وسَمَّتْه اليهود في خيبر، وسرى السم في جسده الشريف، فعانى منه صداعًا شديدًا، وألمًا فظيعًا وهو صابرٌ على ذلك، لا يزيد إذا اشتد به الألم على قوله: "وارأساه". ومكث وجعه أربع سنوات حتى قطع عرق قلبه فمات -صلى الله عليه وسلم-؛ كما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم". رواه البخاري.
فعمل -صلى الله عليه وسلم- بأمر الله تعالى له، وصبر كصبر أولي العزم من الرسل حتى لقي الله تعالى وهو صابرٌ على أذى الناس له، راضٍ بما قضاه الله تعالى وقدَّره عليه، فصلوات الله وسلامه عليه صلاةً وسلامًا تامَّين دائمين ما تعاقب الليل والنهار.
الخطبة الثانية
عباد الله من أراد النجاة فليتروض على الصبر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومن يتصبر يصبره الله". متفقٌ عليه.
عباد الله إن من عاش اليتم فعليه أن يتذكر يتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره، ومن تألم لفراق أحبته وقرابته فليتذكر فراق أحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وصبره على ذلك؛ فلقد فارقه -صلى الله عليه وسلم- أمه وجده وعمه وزوجه وبنوه الثلاثة وثلاثٌ من بناته ولم يبق له إلا واحدةٌ.
ومن عالج مرضًا مزمنًا فليتذكر مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- والسم الذي كان يسري في جسده حتى قتله.
ومن عانى قلة ذات اليد، واهتم لديون ركبته؛ فليتذكر جوع النبي -صلى الله عليه وسلم- حين كانت تمر عليه ثلاث ليال طاويًا، وليعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونةٌ في شيء من شعير.
ومن أوذي في الله تعالى لدعوته، وصَدْعِه بالحقِّ، وأَمْرِهِ بالمعروف ونهيه عن المنكر، فليتذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أوذي بما هو أشد وأكثر، فقابل الأذى بالحلم والصفح والصبر؛ حتى أظهر الله تعالى دينه، وأعلى شأنه، ورفع ذكره، ودحر أعداءه، وما نال -صلى الله عليه وسلم- ذلك إلا بالصبر والتقوى.
إن مقومات العيش الكريم ثلاثٌ جمعها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا". رواه الترمذي
وكل هذه الثلاث افتقدها النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثير من فترات حياته؛ فكان لا يأمن غدر المشركين واليهود والمنافقين، وكانت الأمراض تصيبه حتى فتك به السم، وكان يجوع كثيرًا من قلة ذات اليد، ولا يأتيه مالٌ إلا أنفقه ولم يدخر لنفسه منه شيئًا. فمن تذكر اجتماع ذلك على رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-، وهو خير خلق الله تعالى أجمعين هانت مصائبه ولو كانت عظيمةً، وتأسى به في الصبر والرضا.
والابتلاء لا بد منه للتمحيص والتطهير، ولا ينجو في أمواج الابتلاء، ومحارق الفتن، إلا من تسلح بالتقوى، واستعان بالصبر والصلاة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142].
عباد الله: وإذا كان المسلم محتاجا للصبر في كل حال فحاجته إليه أشد إذا مرجت العهود، وضعفت الذمم واختلت المقاييس والقيم، ونحتاج للصبر إذا خون الأمين، وسود الخؤون، وألبس الحق بالباطل، وسكت العالمون، وتنمر الجاهلون.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وسلم تسليماً كثيرا، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارض عنا بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين ودمر أعداء الدين، اللهم ألف بين قلوب المسلمين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم إنك على كل شيء قدير.
اللهم فقهنا والمسلمين في الدين إنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم، اللهم وفقنا لطاعاتك وجنبنا معاصيك ومحرماتك يا رب العالمين.
اللهم ونفس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم واقض الدين عن المدينين من المسلمين، اللهم واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين إنك أنت الرحمن الرحيم
اللهم ربنا اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت اعلم به منا.. أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم أغثنا. اللهم أغثنا. اللهم أغثنا يا رب العالمين، اللهم أغثنا غيثًا عاجلًا يا رب العالمين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت.. أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) [البقرة: 201].
عباد الله: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل: 90]،
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، والله يعلم ما تصنعون.
اخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648
في الحث على الصبر
منقولة من خطبة للشيخ الحقيل
مع تصرف وزيادة لأخيكم
عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله الصبور الشكور، شملت قدرته كل مخلوق، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعرف الخلق بربه، وأقومهم بخشيته، وأنصحهم لأمته، وأصبرهم لحكمه، وأشكَرهم لنعمه. فصلى الله وملائكته وأنبياؤه عليه، كما وَحَّدَ الله وعَرَّف به ودعا إليه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ورضي الله عن جميع أصحابه وأتباعه الحامدين لربهم على السراء والضراء، والشدة والرخاء.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها الناس، روى أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنهما أنه في يوم من الأيام في المدينة، جاء ناس من الأنصار إلى النبي يسألونه المال فأعطاهم عليه السلام، ثم سألوه فأعطاهم، ومازال يعطيهم حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ((ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يتصبّره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر)). هذا الحديث متفق عليه
نعم إخوة الإيمان إنه الصبر، هذا مقام الأنبياء والمرسلين، ومنازل المتقين، وحلية أولياء الله المخلصين، وهو أهم ما نحتاج إليه نحن في هذا العصر الذي كثرت فيه المصائب وتعددت، وقلّ معها صبر الناس على ما أصابهم به الله تعالى من المصيبة، ولو يعلم المصابون ما ينالون من الأجر الكبير إن هم صبروا، لتمنوا أن مصيبتهم أشد بلاء، وأعظم نكاء.
واعلموا يا عباد الله أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبر يصبره الله، والصبر ضياء، بالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب: أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً [الفرقان:75]،
وقال تعالى عن أهل الجنة: سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ [الرعد:24]، هذا هو الصبر، وتلك منزلته،
عباد الله / إننا نعيش في عصر الفتن والاضطرابات وكثرة المشاكل، والتي تجعل الحليم حيران، وقد تؤدي ببعض الناس إلى اليأس والقنوط؛ لعدم تحملهم لهذه الأحداث.
واليأس والقنوط معناهما واحد، ولقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى لينفر الناس منهما لأنهما من كبائر الذنوب، قال تعالى: ((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)) وروح الله رحمته ورجاء الفرج عنده. وقال في القنوط : (( قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ))
فبين سبحانه بأن المؤمن لا يكون يائسًا قانطًا، بل يجب عليه أن يكون على الدوام مؤمّلاً راجيًا رحمة الله وعفوه، عاملاً بما أمره الله به، ويكافح في مقاومة الشدائد، ويصبر على مقدور الله،
ولا يشتكي لأحد. ونحن اليوم كمسلمين في أمس الحاجة للصبر لكي نعيش سعداء مطمئنين في عصرنا هذا المزعج، والذي لا تسمع فيه إلا ما يُحزن،
والصبر عدة لازمة لكل حي؛ لأن الحياة لا تخلو من بلاء، وقد قيل في منثور الحِكَم: من أحب البقاء، فليُعِد للمصائب قلبًا صبورًا.
وقال ابن عباس: أفضل العدة الصبر على الشدة. فمن حسن التوفيق وأمارات السعادة: الصبر على الملمات،
عباد الله والمكروه قد يأتي بالمحبوب، والمرغوب قد يأتي بالمكروه، فلا تأمن أن توافيك المضرة من جانب المسرة،
ولا تيأس أن تأتيك المسرة من جانب المضرة، قال عز وجل: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
فوطّن نفسك على المصائب قبل وقوعها، ليهن عليك وقعها، ولا تجزع بالمصائب، فللبلايا أمد محدود عند الله، ولا تسخط بالمقال، فرب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده ولا ينطق بالشكوى لسانه، وخفف المصاب على نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر، لتذهب المحن بلا شكوى،
وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجَلَد، والصابرون مجزيون بخير الثواب، وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[النحل:96]، وأجورهم مضاعفة، أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ [القصص:54]،
عبد الله فلا تضيّع زمانك بهمّك بما ضمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وإذا أغلق عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه.
وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي في النار الخليل، وأضجِع للذبح إسماعيل، وألقي في بطن الحوت يونس، وقاسى الضر أيوب، وبيع بثمن بخس يوسف، وألقي في الجب إفكاً، وفي السجن ظلماً، وعالج أنواع الأذى نبينا محمد ، وأنت على سنة الابتلاء سائر، والدنيا لم تصفُ لأحد، ولو نال منها ما عساه أن ينال،
يقول المصطفى : ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) رواه البخاري
قال بعض أهل العلم: من خلقه الله للجنة لم تزل تأتيه المكاره، والمصيبة حقاً إنما هي المصيبة في الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية، فيها رفع الدرجات، وحط السيئات، وكل نعمة لا تُقرّب من الله فهي بلية، والمصاب من حُرِم الثواب، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا،
عباد الله قصَّ الله تعالى أخبار صبر الأنبياء -عليهم السلام- للتأسي بهم في ذلك؛
ففي صبر أيوب على مرضه الشديد الطويل قال الله تعالى فيه:
(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً) [ص:44]،
وفي صبر إسماعيل وهو يقدم للذبح: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) [الصفات:102]،
وفي صبر يعقوب على فقد ولده: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف:18]،
وفي صبر يوسف على ما ناله من البلاء العظيم: (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90].
وقص الله تعالى ذلك على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ليثبت ويصبر: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام: 34]،
فحقق -صلى الله عليه وسلم- أعلى درجات الصبر، وتحمل في سبيل الله تعالى أنواع الأذى، وكل ما قص الله تعالى علينا من أنواع الابتلاءات التي ابتليت بها الرسل فإن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد ابتلي بجميعها وبما هو أشد منها؛ فصبر صبرًا جميلاً لا جزع فيه ولا سخط ولا شكاية.
لقد صبر -صلى الله عليه وسلم- على أذى المشركين في مكة، وعلى أذى اليهود والمنافقين في المدينة، وكل هذه الطوائف الثلاث حاولوا قتله غير مرة، وصبر -صلى الله عليه وسلم- على الابتلاءات العظيمة التي ابتُلي بها في نفسه وأهله وولده وقرابته، وصبر على شدة الفاقة، وإلحاح الحاجة، وكان ابتلاؤه منذ نشأته -صلى الله عليه وسلم-.
لقد لازمته الابتلاءات منذ صغره فولد يتيمًا، ونشأ فقيرًا، وفجع بوالدته طفلاً لم يتجاوز ست سنوات، فلم ينسها قط، والطفل لا ينسى فَقْدَ أمه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبرَ أمه فبكى وأبكى من حوله". رواه مسلمٌ.
ثم فجع بجده وهو ابن ثماني سنوات، فأعاله عمه الفقير أبو طالب فضمه إلى بنيه، فأعانه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو طفلٌ برعي غنم أهل مكة على قراريط.
هذا اليتيم الفقير أراد الله تعالى أن يكون خاتم المرسلين، وخيره بأن يكون ملكًا رسولاً، أو عبدًا رسولاً، فاختار الثاني.
ولما بُعث بالرسالة وآذاه المكذبون فُجع بموت المدافع عنه عمه أبي طالب، وبموت المواسية له زوجه خديجة -رضي الله عنها- في عام واحد سُمِّي عام الحزن.
لقد فُجِع -صلى الله عليه وسلم- في قرابته وأهل بيته كأشد ما يفجع أحدٌ في أهله، فتتابع موتهم عليه منذ صغره -صلى الله عليه وسلم-، ورزق سبعةً من الولد: القاسم وعبد الله وإبراهيم ورقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، ماتوا كلهم تباعًا أمامه إلا فاطمة فماتت بعده، ودخل -صلى الله عليه وسلم- على ابنه إبراهيم وهو في النزع فأخذه، فقبله وشمه... وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله، فقال: "يا ابن عوف: إنها رحمةٌ"، ثم أتبعها بأخرى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك -يا إبراهيم- لمحزونون". رواه الشيخان.
وصبر -صلى الله عليه وسلم- على قلة ذات اليد، وعانى شظف العيش، ووجد ألم الحرمان، وأحسَّ بقرص الجوع، أخبر عنه بذلك ألصق الناس به
فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إن كنَّا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلَّة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نارٌ"، وقالت: "ما أكل آل محمد -صلى الله عليه وسلم- أكلتين في يوم إلا إحداهما تمرٌ". رواهما البخاري. وقالت: "ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض". متفقٌ عليه.
وقالت: "وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين". رواه مسلمٌ.
وقال خادمه أنسٌ -رضي الله عنه-: "ما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رغيفًا مرققًا حتى لحق بالله، ولا رأى شاةً سميطًا بعينه قط، أي: شاةً مشويةً". رواه البخاري.
وأخبر ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاءً"، قال: "وكان عامة خبزهم خبز الشعير". رواه أحمد.
وقال النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-: "لقد رأيت نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه". رواه مسلمٌ. وفي رواية لأحمد: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظل اليوم يَلْتَوِي، ما يجد دقلاً يملأ به بطنه».
مع أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الطعام الطيب، والشراب الطيب، لكنه لا يجده من قلة ذات اليد؛ فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الحلواء والعسل، ويحب الذراع من اللحم، ويتتبع الدباء، وهي التي تسمى اليقطين أو القرع.
وذات مرة أتته ابنته فاطمة -رضي الله عنها- بكسرة فقال: "ما هذه؟!"، قالت: قرصٌ خبزته، فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، قال: "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام". رواه الطبراني.
وكان مرضه أشد من مرض غيره، وحُمَّاه أحر من حُمَّى سواه، وصداعه ليس كصداع الناس، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله: إنك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، فقلت: ذلك أن لك أجرين. متفقٌ عليه.
وسَمَّتْه اليهود في خيبر، وسرى السم في جسده الشريف، فعانى منه صداعًا شديدًا، وألمًا فظيعًا وهو صابرٌ على ذلك، لا يزيد إذا اشتد به الألم على قوله: "وارأساه". ومكث وجعه أربع سنوات حتى قطع عرق قلبه فمات -صلى الله عليه وسلم-؛ كما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم". رواه البخاري.
فعمل -صلى الله عليه وسلم- بأمر الله تعالى له، وصبر كصبر أولي العزم من الرسل حتى لقي الله تعالى وهو صابرٌ على أذى الناس له، راضٍ بما قضاه الله تعالى وقدَّره عليه، فصلوات الله وسلامه عليه صلاةً وسلامًا تامَّين دائمين ما تعاقب الليل والنهار.
الخطبة الثانية
عباد الله من أراد النجاة فليتروض على الصبر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومن يتصبر يصبره الله". متفقٌ عليه.
عباد الله إن من عاش اليتم فعليه أن يتذكر يتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره، ومن تألم لفراق أحبته وقرابته فليتذكر فراق أحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وصبره على ذلك؛ فلقد فارقه -صلى الله عليه وسلم- أمه وجده وعمه وزوجه وبنوه الثلاثة وثلاثٌ من بناته ولم يبق له إلا واحدةٌ.
ومن عالج مرضًا مزمنًا فليتذكر مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- والسم الذي كان يسري في جسده حتى قتله.
ومن عانى قلة ذات اليد، واهتم لديون ركبته؛ فليتذكر جوع النبي -صلى الله عليه وسلم- حين كانت تمر عليه ثلاث ليال طاويًا، وليعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونةٌ في شيء من شعير.
ومن أوذي في الله تعالى لدعوته، وصَدْعِه بالحقِّ، وأَمْرِهِ بالمعروف ونهيه عن المنكر، فليتذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أوذي بما هو أشد وأكثر، فقابل الأذى بالحلم والصفح والصبر؛ حتى أظهر الله تعالى دينه، وأعلى شأنه، ورفع ذكره، ودحر أعداءه، وما نال -صلى الله عليه وسلم- ذلك إلا بالصبر والتقوى.
إن مقومات العيش الكريم ثلاثٌ جمعها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا". رواه الترمذي
وكل هذه الثلاث افتقدها النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثير من فترات حياته؛ فكان لا يأمن غدر المشركين واليهود والمنافقين، وكانت الأمراض تصيبه حتى فتك به السم، وكان يجوع كثيرًا من قلة ذات اليد، ولا يأتيه مالٌ إلا أنفقه ولم يدخر لنفسه منه شيئًا. فمن تذكر اجتماع ذلك على رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-، وهو خير خلق الله تعالى أجمعين هانت مصائبه ولو كانت عظيمةً، وتأسى به في الصبر والرضا.
والابتلاء لا بد منه للتمحيص والتطهير، ولا ينجو في أمواج الابتلاء، ومحارق الفتن، إلا من تسلح بالتقوى، واستعان بالصبر والصلاة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142].
عباد الله: وإذا كان المسلم محتاجا للصبر في كل حال فحاجته إليه أشد إذا مرجت العهود، وضعفت الذمم واختلت المقاييس والقيم، ونحتاج للصبر إذا خون الأمين، وسود الخؤون، وألبس الحق بالباطل، وسكت العالمون، وتنمر الجاهلون.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وسلم تسليماً كثيرا، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارض عنا بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين ودمر أعداء الدين، اللهم ألف بين قلوب المسلمين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم إنك على كل شيء قدير.
اللهم فقهنا والمسلمين في الدين إنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم، اللهم وفقنا لطاعاتك وجنبنا معاصيك ومحرماتك يا رب العالمين.
اللهم ونفس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم واقض الدين عن المدينين من المسلمين، اللهم واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين إنك أنت الرحمن الرحيم
اللهم ربنا اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت اعلم به منا.. أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم أغثنا. اللهم أغثنا. اللهم أغثنا يا رب العالمين، اللهم أغثنا غيثًا عاجلًا يا رب العالمين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت.. أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) [البقرة: 201].
عباد الله: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل: 90]،
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، والله يعلم ما تصنعون.
اخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648