فيم يختصم الملائكة.

عبدالله بن رجا الروقي
1436/05/14 - 2015/03/05 08:39AM
فيم يختصم الملائكة*.


الحمدلله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فإن الوحي الشريف خير مايذكر ويُتدبر لما اشتمل عليه من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة ومن ذلك مارواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ((احتبس عنا رسول الله ﷺ ذات غداة في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله سريعا، فثوّبَ بالصلاة، ثم أقبل إلينا فقال: سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فرأيته وضع كفه بين كتفي، حتى وجدت برد آنامله في صدري، وتجلى لي كل شيء وعرفت.
فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات، قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات.
قال: وما الدرجات ؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام.
فقال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك)).
وقال رسول الله ﷺ : ((إنها حق فادرسوها وتعلموها)).
وفي بعض الروايات: ((المشي على الأقدام إلى الجماعات)) بدل (الجمعات).

في هذا الحديث أن النبي ﷺ رأى ربه في المنام - ورؤيا الأنبياء حق ووحي - ، فأعلمه الله عز وجل أن الملائكة يختصمون في الذي يُكفِّرُ الله به الخطايا ويرفع الله به الدرجات حيث جاء في الحديث ذكرُ ثلاثة أسباب لتكفير السيئات وثلاثةُ أسباب لرفع الدرجات.
أما أسباب تكفير السيئات فهي الكفارات التي ذكرها النبي ﷺ بقوله : ((إسباغ الوضوء في الكريهات ونقل الأقدام إلى الجمعات أو الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات)).
وسميت هذه كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات، ولذلك جاء في بعض الروايات: ((من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه)).

وهذه الأعمال تُكفِّر السيئات، ويحصل بها أيضا رفع الدرجات، كما قال رسول الله ﷺ: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِباط فذلكم الرِباط))
رواه مسلم.
فالسبب الأول لتكفير السيئات الوارد في الحديث هو إسباغ الوضوء.
ومعنى إسباغ الوضوء هو إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية، يقال ثوب سابغ ، إذا كان مغطيًا للبدن كله.
وإسباغ الوضوء على الكريهات: يعني في حالة تكره النفس فيها الوضوء، كالبرد والمرض الشديدين ، وكذلك عند النوم مع مدافعة النعاس.
فعلى المسلم أن يستحضر هذا الثواب فإنه أدعى لأداء العمل بصدر منشرح ، قال بعض السلف: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
وقد جاء في القرآن مادل عليه الحديث من فضل الوضوء وهو قوله تعالى في آية الوضوء: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ إلى قوله: ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ﴾.
فقوله تعالى: ﴿ ليطهركم ﴾ يشمل طهارة ظاهر البدن بالماء وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة إنما يحصل بمغفرة الذنوب وتكفيرها، كما قال الله تعالى لنبيه:
﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ﴾.
وقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ تدل على تكفير الخطايا بالوضوء، فمنها مارواه مسلم عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثم قال: ((رأيت رسول الله ﷺ توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ هكذا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة ))

والسبب الثاني في تكفير الخطايا:
المشي على الأقدام إلى الجمعات والجماعات، ولا سيما إذا توضأ الرجل في بيته ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ : ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عنه أن النبي ﷺ قال : ((كل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة )) ، وفيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: ((إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم))
وثواب المشي إلى المساجد في الظُلَم : النورُ التام في ظلم القيامة، كما في سنن أبي داود والترمذي عن النبي ﷺ قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))

ثم ذكر ﷺ السبب الثالث من مكفرات الذنوب بقوله : ((الجلوس في المساجد بعد الصلوات)) يعني انتظارا لصلاة أخرى كما في حديث: ((وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) أي بمنزلة الرباط في سبيل الله عزوجل.
ويدخل في قوله: ((والجلوس في المساجد بعد الصلوات)) : الجلوسُ للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه ونحو ذلك، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وفي الصحيحين قوله ﷺ : (( إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة))
وفي صحيح مسلم عنه ﷺ قال: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )) . وبالجملة فالجلوس في المساجد للطاعات له فضل عظيم، قال سعيد بن المسيب: من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل.
وهو أيضا من السبعة الذين يظلهم الله بظله.
ولما كانت المساجد بيوت الله وأضافها إلى نفسه تشريفا لها، تعلقت قلوب المومنين بها لنسبتها إلى ربهم وارتاحت إلى ملازمتها لإظهار ذكره.
قال تعالى: ﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ﴾



ثم ذكر رسول الله ﷺ ثلاثة أسباب لرفع الدرجات في قوله ﷺ : ((إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام))
فأول هذه الأسباب : ((إطعام الطعام)).
فإطعام الطعام من أعظم الأسباب الموصلة إلى أعلى درجات الجنة، وقد وصف الله عز وجل الأبرار بقوله: ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
أي على حبهم للطعام وحاجتهم إليه، وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ : ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: لمن أطعم الطعام وأطاب الكلام وصلى بالليل والناس نيام)).
وهذا يدل على أن إطعام الطعام يوجب دخول الجنة ويباعد عن النار وينجي منها كما قال تعالى: ﴿ فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ﴾
ثم ذكر النبي ﷺ السبب الثاني لرفع الدرجات وهو
(لين الكلام) وهو خطاب الناس بالكلام الحسن المناسب لأحوالهم ، وذلك أن لين الكلام سبب عظيم يدعو إلى الألفة والمحبة بين المسلمين ، وهذا أدعى لاجتماع كلمتهم وعدم تفرقهم وقد جاء ذكر ذلك في كتاب الله أيضًا قال الله عز وجل: ﴿ وقولوا للناس حسناً ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ﴾
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ : ((والكلمة الطيبة صدقة))
وفيه أيضا: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة))

قوله ﷺ في الدرجات: ((والصلاة بالليل والناس نيام)). هذا هو السبب الثالث من أسباب رفع الدرجات وهو قيام الليل فإنه من موجبات الدرجات العالية في الجنة، قال الله عز وجل في وصف المحسنين: {كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون}
وقال ﷺ : ((أفضل الصلاة ، بعد الصلاة المكتوبة ، الصلاة في جوف الليل )) رواه مسلم.

ثم دعا النبي ﷺ بدعوات مباركات ينبغي لكل مسلم أن يحفظها ويدعو بها قال ﷺ : ((اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك)).

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

* استفدت من كلام الحافظ ابن رجب في شرحه لحديث اختصام الملأ الأعلى بتصرف وزيادة.
المشاهدات 2855 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا