فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ

د عبدالعزيز التويجري
1442/08/05 - 2021/03/18 07:28AM

الخطبة الأولى : فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ..                  5/8/1442هـ

الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه و من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد

قال ربنا عزو وجل {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}

مضى كتاب الله أن الأمم إذا كذبت بآيات الله، وعصت رسله، وستكبرت في الأرض ، استحقت العذاب، وإذا انعقد غمامه فلا راد لأمره {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}. 

وهذا ما جرى في الأمم كلها إذا نزل عليها العذاب أخذها الله أخذا وبيلا، ولم ينفعها إيمانها الاضطراري في آخر لحظة (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) إلا قوم يونس لما آمنوا كشف الله عنهم العذاب ورحمهم ..

 قال ابن عباس: لم تكن قريةٌ آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله، إلا قرية يونس.

وَذَلِكَ أَنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ قَرْيَةِ "نِينَوَى"، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ ثَلَاثٍ. وتزود يونس عليه السلام زادًا فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ أَيْ غَضْبَان عَلَيْهِمْ مِمَّا قَاسَى مِنْهُمْ، وَلَمْ يُؤْذَن لَهُ فِي الخروج، فلما فقدوه ندموا على صنيعهم، فانطلقوا يطلبونه فلم يجدوه ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكْذِبُ، فرَأَوْا الْعَذَاب شبه النيرَان فِي السَّمَاء، حتى دان منهم قدر ميل، خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ بِأَطْفَالِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْأُمَّهَاتِ وَأَوْلَادِهَا، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَأَرُوا إِلَيْهِ، وَرَغَتِ الإبل وفُضْلانها، وَخَارَتِ الْبَقَرُ وَأَوْلَادُهَا، وَثَغَتِ الْغَنَمُ وحُمْلانها، فَرَحِمهم الله  ورَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ ثم أبقاهم .

وَأَمَّا يُونُسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ غدا ينْتَظر الْعَذَاب فَلم ير شَيْئا قَالَ: لَا وَالله لَا آتيهم وَقد جربوا عليَّ كذبة، فانْطلق آبقا هاربا وأبق عن ربه لذنبه، وهي عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك كما قال الله: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ} فذَهَبَ مغتما حتى أتى البحر فَرَكِبَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفِينَةٍ فَلَجَّجت بِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَغْرَقُوا ، فَاقْتَرَعُوا عَلَى رَجُلٍ يُلْقُونَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ يَتَخَفَّفُونَ مِنْهُ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَأَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ، ثُمَّ أَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأَبَوْا، ثُمَّ أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} ، أَيْ: وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ ، فَقَامَ يُونُسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ،{فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: فاعل ما يلام عليه وهو هروبه، فأَرْسَلَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ -فِيمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ-حُوتًا عظيماً يَشُقُّ الْبِحَارَ، حَتَّى جَاءَ فَالْتَقَمَ يُونُسَ حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْحُوتِ أَلَّا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا؛ فَإِنَّ يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنَّمَا بَطْنُكَ لَهُ يَكُونُ سِجْنًا، ولم يكن يظن أن الله سيجعله في ضيق ويحبسه في بطن الحوت.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ y : ذَهَبَ بِهِ الْحُوتُ فِي الْبِحَارِ يَشُقُّهَا حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فِي قَرَارِهِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ نادى ربه فِي الظُّلُماتِ ظُلْمَةُ الْحُوتِ وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فاعترف بذنبه، وسبح ربه، فرحمه ربُه فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بالعرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ، فلطف به وَأَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وهي الدُّباء فَكَانَ يَسْتَظِلُ بِهَا وَيُصِيبُ مِنْهَا حتى شابت إليه نفسه، فمضى إلى قومه { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .

قال النَّبِيِّ r: " لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ  بْنِ مَتَّى "متفق عليه.

سورة يونس وقصة يونس آياتُ بينات، وحكمُ بالغات، لكل مؤمن داعية، بل لكل من في الأرض جميعا..

 قصة يونس u مؤثرة بليغة، تهز الجنان ، وتهدي الحيران..

 قصةُ وسيرة، تكررت في أكثر من سورة، عظة وعبرة، ودرس وذكرى {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ..

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة، واستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إن ربنا غفور شكور

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطَفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى... أما بعد:

علمتنا سورة يونس وقصة يونس عليه السلام أنه ليس بين الله وبين أحد رابطة إلا رابطة الإيمان به ( لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وأن الناس إذا استكبروا في الأرض وبطروا نعمة الله لاتحابيهم سننه {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.

الظلم والطغيان موجب لغضب اللهِ وبطشهِ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.

بل قد جاء التعريض بوقوع العذابِ بأقل من ذلك، قال عمر بن الخطاب t غدوتُ على رَسُولُ اللهِ r فإذا هو وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ، -يعني أُسراء بدر- لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) أخرجه مسلم.

قصةُ يونس u .. مدرسةُ لكل داعيةِ إلى أن يتحمل تكاليف الدعوة، ويصبر على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} مغموم مكروب.. وإلا فتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس ، ولا يحس به إلا من ذاقه.. في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام لعائشة "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ"

 وهذا بعض من تكاليف الدعوة التي يعقبها العاقبة لمن صبر .. فاليتعزى الدعاة والمصلحون بما يصيبهم من أذىً بأنبياء الله ورسله صلوات ربي وسلامه عليهم.

ومسك الختام لكل من أصابه هم أو غم أو ضائقة أن ينادي ربه (لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) في سنن الترمذي قال عليه الصلاة والسلام :" دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ.

 {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}..

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

ومما يستحب في شهر شعبان كثرة الصيام فيه قالت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ r يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ،كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا " أخرجه البخاري ومسلم.

اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا ، اللهم ارفع الغمة عن هذه الامة ، اللهم اصلح الراعي والرعية ، اللهم امنا في دورنا ، واصلح ولاة امورنا ، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين اللهم صل على نبينا محمد وارض اللهم عن خلفائه الراشدين

المرفقات

1616052531_فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ.pdf

المشاهدات 1697 | التعليقات 0