( فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ )
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلمَ: ( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ )
هَذَا الحَدِيثُ - رَحِمَكُمُ اللهُ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ حَتَّى قَالَ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: هُوَ أَحَدُ الأَحَادِيثِ التِي مَدَارُ الدِّينِ عَلَيْهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ثُلُثُ العِلْمِ أَوْ رُبُعُهُ.
عِبَادَ اللهِ: الحَلَالُ البَيِّنُ؛ مِثْلُ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ، وَلِبَاسِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيهِ، وَالبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالنِّكَاحِ وَغَيرِ ذَلِكَ.
وَالحَرَامُ البَيِّنُ؛ مِثْلُ أَكْلِ المَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الخَمْرِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالمُشْتَبِهُ؛ مِثْلُ بَعْضِ مَا اخْتُلِفَ فِي حِلِّهِ أَوْ تَحْــرِيمِهِ مِنَ الأَعْيَانِ أَوِ اللِّبَاسِ أَوِ المَكَاسِبِ.
فَالمُؤْمِنُ المُتَّقِي يَأْخُذُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ؛ فَيَأْكُلُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة 172 ]
وَيَلْبَسُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلمَ: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ ) [ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ]
المُؤْمِنُ المُتَّقِي يَبِيعُ حَلَالًا، وَيَشْتَرِي حَلَالًا، وَيَنْكِحُ حَلَالًا.
أَمَّا المُحَرَّمَاتِ؛ فَإِنَّ المُؤْمِنَ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْهَا؛ مَهْمَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَتَهَيَّأَتْ لَهُ، وَمَهْمَا اشْتَهَتْهَا نَفْسُهُ، وَزَيَّنَهَا لَهُ الشَّيْطَانُ عَدُّوَّهُ، فَقَدْ أَقْسَمَ: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } الحجر 39
يَقُولُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: [ أَيْ: لَأُحَسِّنَنَّ لَهُمْ مَعَاصِيكَ وَلَأُحَبِّبَنَّهَا إِلَيْهِمْ فِي الأَرْضِ ]
عِبَادَ اللهِ: وَأَمَّا الأُمُورُ المُشْتَبِهَاتُ؛ فَإِنَّ المُؤْمِنَ المُتَّقِي يَتَوَرَّعُ مِنْهَا، وَيَسْتَبْرِئُ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَوَرَّعْ وَيَبْتَعِدْ؛ فَسَتَقُودُهُ إِلَى الحَرَامِ.
يَقُــولُ ابنُ دَقِيـقِ العِيدِ رَحِمَهُ اللهُ: مَنْ أكْثَرَ مِنْ مُـوَاقَعَــةِ الشُّبُهَاتِ أَظْلَمَ عَلَيهِ قَلْبُهُ؛ لِفُقْدَانِ نُورِ العِلْمِ، وَنُورِ الـــوَرَعِ فَيَقَعُ فِي الحَرَامِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ... الخ
مَنْ تَسَاهَلَ بِالشُّبُهَاتِ؛ وَتَجَرَّأَ عَلَيْهَا؛ جَرَّأَتْهُ عَلَى المُحَرَّمَاتِ؛ يَهُونُ عَلَيهِ الوُقُوعُ فِيمَا يَشُكُّ فِي حِلِّهِ أَوْ حُرْمَتِهِ؛ ثُمَّ تَهُونُ عَلَيهِ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، ثُمَّ تَهُونُ عَلَيهِ الكَبَائِرُ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّغِيرَةُ تَجُرُّ الكَبِيرَةَ، وَالكَبِيرَةُ تَجُرُّ الكُفْرَ.
وَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَقَعُ فِي الحَرَامِ البَيِّنِ؛ كَانَتْ بِدَايَتُهُ التَّسَاهُلُ بِالمُشْتَبِهَاتِ، يَشُكُّ فِي مُعَامَلَةٍ؛ أَحَلَالٌ هِيَ أَمْ حَرَامٌ؛ فَيُقْدِمُ وَلَا يَتَوَرَّعُ وَلَا يَسْأَلُ؛ وَيَشُكُّ فِي أُخْرَى؛ فَيُقْدِمُ وَلَا يُبَالِي...
وَهَكَذَا؛ حَتَّى يَرْتَكِبَ المُحَرَّمَاتِ، وَيُصِرَّ عَلَيهَا.
وَالأَشَدُّ مِنْ هَذَا وَالأَخْطَرُ مَنْ يَسْتَحِلُّ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، ثُمَّ يَكْتَفِي بِهَذَا؛ بَلْ يُزَيِّنُهَا لِلنَّاسِ وَيَدْعُوا إِلَيْهَا.
أَلَا فَلْنَتَّقِّ اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَلْنَكُنْ مِنَ المُحَرَّمَاتِ عَلَى بُعْدٍ وَحَذَرٍ؛ وَلْيَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حَاجِزٌ مِنَ الوَرَعِ؛ وَلْنَأْخُذْ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ العَظِيمَةِ: ( فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ )
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمْ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ؛ أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ - رَحِمَكُمُ اللهُ - وَأَطِيعُوهُ، وَحَاذِرُوا غَضَبَهُ وَلَا تَعُصُوهُ، خُذُوا بِالحَلَالِ البَيِّنِ، وَاحْذَرُوا كُلَّ الحَذَرِ الحَرَامَ البَيِّنَ، وَعَلَيكُمْ بِالوَرَعِ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيكُمْ.
يَقُولُ الشَّيخُ ابنُ عُثَيمِينَ رَحِمَهُ اللهُ؛ عِنْد حَدِيثِ ( دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ ) وَهَذَا الحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ وَمَا أَجْوَدَهُ وَأَنْفَعَهُ لِلْعَبْدِ إِذَا سَارَ عَلَيهِ، فَالعَبْدُ يَرِدُ عَلَيهِ شُكُوكٌ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَنَقُولُ: دَعِ الشَّكَّ إِلَى مَا لَاشَكَّ فِيهِ، حَتَّى تَسْتَرِيحَ وَتَسْلَمَ، فَكُلُّ شَيءٍ يَلْحَقُكَ بِهِ شَكٌّ وَقَلَقٌ وَرَيْبٌ؛ اُتْرُكْهُ إِلَى أَمْرٍ لَا يَلْحَقُكَ بِهِ رَيْبٌ، وَهَذَا مَالَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الوَسْوَاسِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الوَسْوَاسِ فَلَا تَلْتَفِتْ لَهُ، وَهَذَا يَكُونُ فِي العِبَادَاتِ، وَيَكُونُ فِي المُعَامَلَاتِ وَيَكُونُ فِي النِّكَاحِ، وَيَكُونُ فِي كُلِّ أَبْوَابِ العِلْمِ... الخ
وَيَقُولُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ رَحِمَهُ اللهُ: عَلَيْكَ بِالْوَرَعِ يُخَفِّفِ اللَّهُ حِسَابَكَ، ثُمَّ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، وَادْفَعِ الشَّكَّ بِالْيَقِينِ يَسْلَمْ لَكَ دِينُكَ.
وَيَقُولُ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ رَحِمَهُ اللهُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الوَرَعِ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ.
عِبَادَ اللهِ: وَإِذَا كَانَ النَّاسُ بِحَاجَةٍ إِلَى الوَرَعِ؛ فَإِنَّ الحَاجَةَ إِلَيهِ فِي زَمَانِنَا تَشْتَدُّ، الحَاجَةُ مَاسَّةٌ إِلَى الوَرَعِ مَعَ كَثْرَةِ الشبهات؛ وَكَثْرَةِ مَنْ يَقَعُ فِيهَا؛ بَلْ يَقَعُ فِي صَرِيحِ المُحَرَّمَاتِ.
ثُمَّ إِنَّ الوَرَعَ وَتَرْكَ المُشْتَبِهَاتِ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيهِ؛ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَثَمَرَتَهُ وَأَثَرَهُ.
وَإِنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الوَرَعِ: الإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ؛ بِأَنْ يَتْرُكَ المُشْتَبِهَاتِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنْ مَنْ تَرَكَ لِلَّهِ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الوَرَعَ حَاجِزٌ عَنِ الحَرَامِ بِإِذْنِ اللهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَلَامَةٌ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.
رَزَقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ هَذَا الخُلُقَ الكَرِيمَ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُــوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمـًا }الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيكَ بِأَعْدَائِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1704332686_فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.pdf
1704332708_فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.docx