(فلمَّا كشفنا عنهم الرجز...)
عبدالكريم الخنيفر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديا له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا،
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإنَّها علامةُ أصحابِ العقولِ سبيلُ نجاتهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾.
عبادَ الله، عندما انتهت مواجهةُ موسى ﷺ والسحرةَ في يومِ الزينةِ عاش موسى ومن معه مدةً من الزمنِ إلى جوارِ فرعونَ وقومِه، وكأيِّ صراعٍ إنسانيٍّ بين الحقِّ والباطلِ فقد استمرَّ موسى ﷺ ينصحُهم ويدعوهم لتوحيدِ الله، في ظلِّ عنادٍ واستكبارٍ من فرعونَ وملأِه.
وفي أثناءِ ذلك كانتْ تأتيهم النُّذرُ آياتٍ ربانيةً لعلها تحيي القلوبَ الميتةَ وتفتحُ العقولَ المقفلة.
هي نُذُرٌ وتحذيراتٌ من اللهِ تعالى لبني البشرِ في كلِّ زمانٍ ومكان، يُرسلها إليهم ليعودوا إلى رشدِهم، ليعلمَ الإنسانُ أنه محضُ إنسان، ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ؟ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾.
ليعلمَ الإنسان أنَّ طغيانَه في هذه الأرضِ مجردُ قدرةٍ يسيرةٍ منحها اللهُ إياه ويسلبُها في أيِّ لحظة: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ﴾.
لكنَّ قومَ فرعونَ لم يروها بهذا الشكل، وكذلك أهلُ الطغيانِ والفجورِ والفسوقِ في كلِّ زمنٍ لا يرون تخويفَ اللهِ لهم شيئًا، بل يُمعنونَ في غفلتِهم، قال تعالى: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾.
أرسل اللهُ لفرعونَ وقومِه الطوفانَ الذي أصابهم بالغرقِ وهَلْكِ المحاصيلِ وإفسادِ البُنيان، وأرسلَ عليهم الجرادَ الذي يأكلُ نباتهم وحصيلةَ جهدهم، كما أخذهم بالسنين والمجاعات، وأرسل عليهم غيرَها من التحذيراتِ التي قد تصيبُ أيَّ قومٍ في أيِّ زمان، لكنهم أمامَ هذه النَّذاراتِ تكبَّروا وتجبَّروا، بل وصفوها بالسحر: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
وهذا الإلحاد في فهمِ آياتِ اللهِ ونَذَاراتِه يشبه حالةَ المعاندينَ اليوم، الذين تجبَّروا أمامَ تحذيرِ اللهِ لهم فجعلوه محض ظواهرَ طبيعيةٍ، وظنُّوا أنهم يعرفون أسبابَها وعلاجَها بالعلم التجريبي، فجرَّدوا بذلك قدرةَ الله وتدبيرَه للكون، وجرَّدوا تلكم الظواهرُ الطبيعيةُ من فيضاناتٍ وحرائقَ وريحٍ وزلازلَ وكذلك الخسوفُ والكسوفُ، جرَّدوها أن تكونَ تنبيهاتٍ للناسِ كي يعودوا إلى رُشدهم ويثوبوا لربهم.
استمرَّ طُغيانُ فرعونَ وقومِه حتى أرسلَ اللهُ لهم وباءً عامًّا أصابهم بالهلاكِ والأمراض، فانهارتْ طاقتُهم أمامَه وعجَزَت حيلُهم حياله، هنا عادَ الإنسانُ من جديد لرشدِه، وثابَ عن غيِّه فنادى قومُ فرعون: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾.
فدعا موسى ربَّه فكشف عنهم هذا الوباء ومتَّعهم إلى حين.
لكن، أتراهم يا عباد الله بعد توبتهم هذه أحسنوا العمل؟
﴿كَلَّا! إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ﴾، عاد الإنسانُ من جديدٍ للظلمِ والعدوانِ والشركِ بالله وعصيانِه، حيث استجمعَ الضلالُ قواه ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ فماذا كان فعلهم وقد رأوا آياتِ الله وتحذيراته؟ ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ وهنا انتهت فرصةُ التحذيرِ والنَّذارة، فلم تعُد تنفعُ الآياتُ والتحذيرات، بل استحقوا العذاب: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
انتهت قصةُ طغيانِ الإنسان، لكنها بقيتْ شاهدةً على ذلك الزمان، حتى إذا تكررت في أيِّ زمنٍ انتبه أولوا الألبابِ وأصحابُ القلوبِ الحيةِ أنه ليس شيءٌ على اللهِ بعزيز، وأنَّ السنةَ الكونيةَ ماضيةٌ باستحقاقِ الإنسانِ للعقابِ الدنيوي إنْ هو استكبرَ وتجبَّر وطغى في الأرض، وأنه ما نَزَلَ بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة.
فيكون هذا المسلمُ العابدُ أعقلَ الناسِ بإقبالِه على اللهِ ورجاءِ رحمتِه وعفوِه أن يرفعَ عنه وعن المسلمين الوباءَ فيكونَ بذلك سببًا للنجاة.
اللهم ارفع عنا الوباءَ واحفظنا بحفظكَ وأنت الحفيظُ العليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، أما بعد، عبادَ الله، إن العاقلَّ الحصيفَ ليُدركُ أنه كما للبلاءِ أسبابٌ كونية، فلهُ أسبابٌ علميةٌ حقيقية، يُمكنُ استقصاؤُها بالعلم، وبه كذلك يمكنُ العلاج بحول الله، وهذا لا يتنافى مع الكلام السابق؛ فاللهُ سبحانَه وتعالى مسببُّ الأسبابِ كلِّها، يمنحُها من يشاءُ متى شاءَ، ولو حَجَبَها عن إنسانٍ فلن يصلَ إليها مهما بلغَ من العلمِ والقدرة، ولذا كانَ اللجوءُ إليهِ والافتقارُ لهُ هو أساسُ الحل.
من أجل ذلك يا عبادَ الله لنستصحبْ معَ رجاءِ اللهِ والتوبةِ والاستغفارِ الفعلَ بالأسبابِ التي قدَّر المتخصصون أنها وسيلةٌ لرفع الوباء، ولنكنْ قبلَ ذلك وأثناءَه وبعدَه متوكِّلينَ على اللهِ سبحانَه، معتمدينَ عليه أنْ يحفظَنا بحفظِه ويكلأَنا برعايته، فإننا إن توكلنا عليه سبحانه خفتَ الهلعُ واستراحَ البالُ واطمأنَّ القلب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أي: من فوَّضَ أمره لله كفاه ما أهمَّه، فلنعمَ العبدُ المتوكلَ على الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.
اللهم ارفع عنا الوبا والغلا، اللهم ارفع عنا الوبا والغلا، اللهم ارفع عنا الوبا والغلا،
اللهم احفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك، اللهم احفظنا ووالدينا وأبناءَنا وجميعَ المسلمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا لما تحبُّ وترضى، وخذْ بناصيتِه للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبَه لما فيه خير البلاد والعباد،
اللهم من أرادنا بسوءٍ أو فتنةٍ أو إفسادٍ فأشغلهُ في نفسِه، وردَّ كيدَه في نحره، واجعلْ تدبيرَه تدميرًا عليه.
اللهم كن للمستضعفين في كلِّ مكان، اللهم آوِ شريدَهم وأطعمْ جائعَهم وأدفئْ مقرورَهم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين،
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1640872229_(فلمَّا كشفنا عنهم الرجز...).pdf