فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ
د. محمود بن أحمد الدوسري
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ
د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعد: الْفَهْمُ نِعْمَةٌ عظيمةٌ, بها تُحَلُّ كَثِيرٌ من المُعْضِلاتِ، وتُزالُ العديدُ من العَقَباتِ، ومِنْ وَصِيَّةِ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ لأبي مُوسى الأشعريِّ - رضي الله عنهما: «الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ؛ مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ, وَلَا سُنَّةٍ» صحيح - رواه البيهقي في "السنن الكبرى". قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله (صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ؛ بَلْ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ عَطَاءً - بَعْدَ الْإِسْلَامِ – أَفْضَلُ, وَلَا أَجَلُّ مِنْهُمَا... وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ).
ومِنَ الأُمورِ التي تُنَمِّي مَلَكَةَ التَّفكيرِ القائِمِ على الأدلَّةِ والبراهين, وعلى التَّفْكِيرِ الرَّاجِحِ السَّليم: ما جاء في "قَضِيَّةِ المَرْأَتين اللَّتَين احْتَكَمَتَا إلى داودَ وسُليمانَ" عليهما السلام: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا؛ جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا, فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: "إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ", وَقَالَتِ الأُخْرَى: "إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ". فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ؛ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى. فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ, فَأَخْبَرَتَاهُ؛ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا, فَقَالَتِ الصُّغْرَى: "لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ, هُوَ ابْنُهَا", فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» رواه البخاري ومسلم.
فكُلٌّ مِنهما ادَّعَتْ أنه ابْنُها, فحَكَمَ داودُ عليه السلام لِلْكُبْرَى, ثم تَحاكَمَتَا إلى سُليمانَ عليه السلام؛ فأصابَ حُكمُه الحقَّ في القَضِيَّةِ, وكُلٌّ منهما مَأْجورٌ على اجتهادِه, ومِنْ فوائِدِ الحديث:
بَيانُ فَضْلِ سُليمانَ عليه السلام, وبَيانُ ما آتاه اللهُ تعالى مِنْ قُوَّةِ الفَهْمِ, والقُدْرَةِ على استخراج الحُكْمِ الصَّواب؛ فيما عُرِضَ عليه من قضايا مُتَشابِهَةٍ. قال ابنُ الجَوزِي رحمه الله: (أمَّا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: فَرَأى اسْتِواءَهما فِي الْيَد, فَقَدَّمَ الْكُبْرَى لِأَجْلِ السِّنِّ، وَأمَّا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: فَرَأى الْأَمْرَ مُحْتَمِلًا، فاسْتَنْبَطَ فَأَحْسَنَ؛ فَكَانَ أَحَدَّ فِطْنَةً مِنْ دَاوُد، وَكِلَاهُمَا حَكَمَ بالاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ دَاوُدُ حَكَمَ بِالنَّصِّ؛ لَمْ يَسَعْ سُلَيْمَانُ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلَافِهِ، وَلَو كَانَ مَا حَكَمَ بِهِ نَصًّا؛ لَمْ يَخْفَ على دَاوُدَ).
ومن الفوائد: اسْتِعْمالُ الاسْتِدْلالِ بِالقَرائِنِ والأَمَاراتِ؛ لِمَعْرِفَةِ الحَقِّ في القضايا المُتنازَعِ فيها, عِند عَدَمِ الدَّليل. قال عليٌّ القاري رحمه الله: (اعْلَمْ أَنَّ قَضَاءَهُمَا حَقٌّ؛ لِكَوْنِهِمَا مُجْتَهِدَيْنِ. وَمُسْتَنَدُ قَضَائِهِمَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ: "هِيَ الْقَرِينَةُ", لَكِنَّ الْقَرِينَةَ الَّتِي قَضَى بِهَا "سُلَيْمَانُ" أَقْوَى مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ).
ومن الفوائد: مَشْرُوعِيَّةُ الحِيَلِ, وإِظْهارِ فِعْلِ مَا لا يُرِيدُه لِلوصولِ لِلحقيقة. فسليمانُ عليه السلام قال: «ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا» فإنه لم يَقُلْ ذلك لِيَفْعَلَه؛ وإنما لِيَعْرِفَ الأُمَّ الحقيقيّةَ، حيثُ إنَّ شَفَقَتَها سَتَحْمِلُها عَلَى عَدَمِ شَقِّه؛ بِخِلافِ الأُخرى، وكان الأمْرُ كما أرادَه. فلِلْحاكِمِ أنْ يستعمِلَ الحِيَلَ فِي استخراجِ الحقِّ بالتَّهديدِ، والتَّخِويفِ، وإنْ لمْ يفعلْ ذلك، وهذا يَعْتَمِدُ عَلَى الفَهْمِ، والفِطْنَةِ، فقد يَصِلُ الفَطِنُ - بِلَطِيفِ فِطْنَتِه - إلى ما لا يَصْبُ إليه غيرُه, فهذا عطاءٌ, وفَضْلٌ, ومِنَّةٌ مِنْ الله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
قال النَّووي رحمه الله: (وَأَمَّا "سُلَيْمَانُ" فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنَ الْحِيلَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ بَاطِنِ الْقَضِيَّةِ, فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيدُ قَطْعَهُ؛ لِيَعْرِفَ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهَا قَطْعُهُ, فَتَكُونُ هِيَ أُمَّهُ, فَلَمَّا أَرَادَتِ "الْكُبْرَى" قَطْعَهُ؛ عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّهُ, فَلَمَّا قَالَتِ "الصُّغْرَى" مَا قَالَتْ؛ عَرَفَ أَنَّهَا أُمُّهُ. وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْطَعُهُ حَقِيقَةً, وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَ شَفَقَتِهِمَا؛ لِتَتَمَيَّزَ لَهُ الْأُمُّ).
ومن الفوائد: أَنَّ "الأُمَّ الحقيقيةَ" تَتَنازَلُ عن وَلَدِها, وثَمرةِ فُؤادِها, وأَعَزِّ ما تَمْلِكُ؛ لِأَجْلِ سَلامَتِه, ولأنها تُحِبُّه, وهكذا الذي يُحِبُّ دِينَه, وبَلَدَه المُسلِمَ؛ يتنازل أحيانًا عن حَقِّهِ؛ لِأَجْلِ سلامةِ البلدِ وأهلِه مِنَ الاقْتِتَالِ, والفِتَنِ, والدَّمَارِ, والخَرَابِ.
وأمَّا أصْحابُ المَصالِحِ الدُّنيوية فحالُهُمْ يُشْبِهُ "الأُمَّ الكَاذِبَةَ", صاحِبَةَ الحُبِّ المُزَيَّفِ, التي رَضِيَتْ بِشَقِّ الوَلَدِ عند التَّقاضِي, وهذا حالُ أصحابِ المَصالِحِ الضَّيِّقَةِ؛ يَبِيعون أوطانَهم بِأَرْخَصِ الأَثْمانِ, ويُحَرِّضُونَ على سَفْكِ الدِّماءِ, وحَرْقِ الأَوطانِ؛ إذا تَعارَضَتْ مع مَصالِحِهِم الضَّيِّقَةِ!
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أيها المسلمون .. أصَابَ "سليمانُ" الحقَّ في قَضَايا أُخْرَى؛ غَير هذه القَضِيَّةِ, منها ما جاء في قولِه تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78, 79]. ذَكَرَ اللهُ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، وَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
والقِصَّةُ - كما جَاءَتْ في الرِّوايات: أنَّ جماعةً لهم حَرْثٌ مِنْ عِنَبٍ دخلتْ فيه غَنَمُ قَوْمٍ لَيْلًا, فأَكَلَتِ العِنَبَ وأَتْلَفَتْهُ؛ فحَكَمَ داودُ: «بِأَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الحَرْثِ الماشِيَةَ مُقابل ما أَتْلَفَتْهُ؛ لِأَنَّ المُتْلَفَ يُعادِلُ قِيمَةَ الغَنَمِ التي أَتْلَفَتْهُ». وحَكَمَ سُلَيمانُ: «بِأَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ المَاشِيةِ الزَّرْعَ, يقومُ عليه حتى يَعودَ كما كان، ويَأْخُذَ صَاحِبُ الحَرْثِ الماشِيَةَ يَسْتَفِيدُ مِنْ صُوفِها ولَبَنِها وسِخَالِها؛ فإذا تَمَّ إِصْلاحُ المَزْرَعَةِ كما كانَتْ أَخَذَها؛ ورَدَّ المَاشِيةَ لِصاحِبِها».
عباد الله .. أَخْبَرَ اللهُ تعالى أنه: أفْهَمَ سُليمانَ هذا الحُكْمَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي: فَهَّمْنَاهُ هذه القَضِيَّةَ. ولَمْ يُعاتِبْ داودَ على حُكْمِه؛ ولذا قال سبحانه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}؛ تَلَافِياً لِمَا قَدْ يُظَنُّ أَنَّ داودَ دُونَ وَلَدِه في العِلْمِ والحُكْمِ. وفيه دَلِيلٌ: على أَنَّ الحَاكِمَ قد يُصِيبُ الحَقَّ والصَّوابَ, وقد يُخْطِئُ ذلك. ولا يَدُلُّ ذلك: أنَّ داودَ لم يُفَهِّمْه اللهُ في غيرِها، ولهذا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ؛ بدليل قولِه: {وَكُلًّا} من داودَ وسُليمانَ {آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
ونَلْحَظُ هُنَا: أنَّ الاسْتِدراكَ لَمْ يَأْتِ مِنَ الأَبِ لِلِابْنِ، فيكون أمراً طبيعياً، بل جاء من الابْنِ لِلأَبِ؛ لِيُؤَكِّدَ على أنه لا غَضاضَةَ أنْ يَسْتَدْرِكَ الصَّغيرُ على الكَبِيرِ، أو الابْنِ على الأَبِ. فالهَدفُ هو الوصولُ إلى الحقِّ والصَّوابِ، ونبيُّ اللهِ سليمانُ - في هذه القَضِيَّةِ - لَمْ يغُضَّ الطَّرْفَ عن هذا القُصورِ في حُكْمِ أبيه؛ بل جَهَرَ بالحقِّ ونَطَقَ به؛ لأنَّ الحقَّ أعظمُ مِنْ أيِّ صِلَةٍ حتى لو كانت صِلَةَ الأُبُوَّةِ.
ومن قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} نَشَأَ اسْتِدراكُ الخَلْقِ على الخَلْق؛ فهو أمرٌ مَقبولٌ لا يَسْتَنْكِفُ منه أحدٌ، ومن هذه القَضِيَّةِ جاءت مسألةُ الاستئنافِ في المَحاكِمِ، فَلَعَلَّ القاضي في "مَحْكَمَةِ الاسْتِئْناف" يَسْتَدْرِكُ على زميله في "المَحْكَمَةِ الابتدائية"، أو يقف على شيءٍ لم يَقِفْ عليه، أو يَرَى جانباً من القَضِيَّةِ لم يَرَهُ, أو يَنْقُضُ الحُكْمَ.
ومِنْ فَوائِدِ الآية: مَشْروعِيَةُ الاسْتِئْنافِ والنَّقْضِ في أَحْكامِ المَحاكِمِ؛ فقاضي الاسْتِئْنافِ حينما يُعدِّل في حُكْمِ القاضي الابْتِدائِي لا يُعَدُّ هذا طَعْناً فيه، إنما كُلٌّ منهما حَكَمَ بناءً على عِلْمِه، وعلى ما تَوَفَّرَ له من أدِلَّةٍ ووَقائِعَ، وربما فَطِنَ القاضي الثاني لِمَا لَمْ يَفْطِنْ له القاضي الأَوَّل.
ومن الفوائد: أنَّ الوصولَ إلى الحقِّ لا يُقاسُ بِمِقْدَار السِّنِّ, ويَجوزُ لِلْعالِمِ أَنْ يُخَالِفَ غيرَه مِنَ العُلماء؛ وإنْ كانوا أَسَنَّ منه, وأَفْضَلَ, وأَعْلَمَ؛ إذا رأى الحقَّ في خِلَافِ قَولِهم. قال ابنُ بَطَّالٍ رحمه الله: (وفيه: أنه جَائِزٌ للعالِمِ مُخالَفَةَ غَيرِه من العلماء, وإنْ كانوا أَسَنَّ منه وأفْضَلَ؛ إذا رأى الحقَّ في خِلافِ قَولِهِم. واللهُ تعالى أثنى على "سُليمانَ" بِعِلْمِه، وعَذَرَ "داودَ" بِاجْتِهادِه, ولمْ يُخْلِهِ مِنَ العِلْمِ؛ فقال سبحانه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}).
المرفقات
1685446229_ففهمناها سليمان.docx