فَــلْــيَــفْـــــــرَحـــــُوا

محمد بن سليمان المهوس
1444/12/17 - 2023/07/05 11:57AM

الخُطْبَةُ الأُولَى

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَضِيَ لَنَا الإِسْلاَمَ دِينًا، وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ حَقًّا يَقِينًا، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا لِبَيَانِهِ رَسُولاً صَادِقًا أَمِينًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ خَيْرَ الْوَصَايَا وَأَعْظَمَهَا، وَأَجَلَّهَا وَأَرْفَعَهَا:

 الْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلاَ-؛ فَهِيَ -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ-: وَصِيَّةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلاَ- لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ مِنَ الْعِبَادِ: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِۦ فَبِذَ ⁠لِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس ٥٨].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: وَقَدْ دَارَتْ أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ ورَحْمَتَهُ هِيَ الإِسْلامُ وَالسُّنَّةُ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فَرَحُهُ بِهِمَا، وَكُلَّمَا كَانَ أَرْسَخَ فِيهِمَا كَانَ قَلْبُهُ أَشَدَّ فَرَحًا، حَتَّى إِنَّ الْقَلْبَ لَيَرْقُصُ فَرَحًا إِذَا بَاشَرَ رُوحَ السُّنَّةِ أَحْزَنَ مَا يَكُونُ النَّاسُ، وَهُوَ مُمْتَلِئٌ أَمْنًا أَخْوَفَ مَا يَكُونُ النَّاسُ.

إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِنَّ السُّنَّةَ حِصْنُ اللَّهِ الْحَصِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الآمِنِينَ، وَبَابُهُ الأَعْظَمُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْوَاصِلِينَ ؛ تَقُومُ بِأَهْلِهَا وَإِنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَيَسْعَى نُورُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذَا طُفِئَتْ لأَهْلِ الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ أَنْوَارُهُمْ. انْتَهى.

فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ؛ هَدَانَا رَبُّنَا لِهَذَا الدِّينِ الَّذِي كَمَّلَهُ وَأَتَمَّهُ وَرَضِيَهُ لَنَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3].

وَقَالَ تَعَالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران: 85].

نَفْرَحُ بِهَذَا الدِّينِ وَحُقَّ لَنَا أَنْ نَفْرَحَ.

دِينٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ؛ تَنَوَّعَتْ أَرْكَانُهُ، وَخَفَّتْ تَكَالِيفُهُ، وَعَمَّ فَضْلُهُ، وَيَسُرَتْ شَرِيعَتُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

مِنْ سَمَاحَةِ الإِسْلاَمِ: تَيْسِيرُهُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ تَيْسِيرُهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، فِي أَصْلِ فَرْضِهِ وَفِي أَعْمَالِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97] فَجَعَلَ اللهُ الْحَجَّ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَةِ الْمُكَلَّفِ وَبِالْعُمْرِ مَرَّةً، وَأَمَّا التَّيْسِيرُ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: «اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ»، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلاَ حَرَجَ»، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: «افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ».

نَفْرَحُ بِهَذَا الدِّينِ لأَنَّ اللهَ هَدَانَا لَهُ، وَوَفَّقَنَا لِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَكَمْ مِنْ مَحْرُومٍ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ سَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَاحْمَدُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَاشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، وَسَلُوا رَبَّكُمُ الثَّبَاتَ عَلَى الدِّيِنِ ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [ إبراهيم: 7].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نَفْرَحُ بِمَوَاسِمِ الْخَيْرَاتِ، وَتَنَوُّعِ الطَّاعَاتِ، مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ.

خَتَمْنَا عَامَنَا بِفَرِيضَةِ الْحَجِّ الْمُبَارَكَةِ، وَحَجَّ فِينَا مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ، وَرَجَعَ مِنْ حَجِّهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، خَالِيًا مِنَ الذُّنُوبِ، صَحِيفَتُهُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

[متفق عليه]، وَمَنْ جَلَسَ وَلَمْ يَحُجَّ هَدَاهُ اللهُ وَوَفَّقَهُ لاِسْتِغْلاَلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ الْعَمَلَ فِيِهَا؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ» يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» [رواه البخاري].

نَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُهَيِّئَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا، وَأَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا أَيَّامًا مَدِيدَةً، وَأَزْمِنَةً عَدِيدَةً، وَحَيَاةً سَعِيدَةً إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

  أَمَّا بَعْدُ: عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ فَرَحَ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الدِّينِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ، وَاسْتِجَابَتِهِ لِخَالِقِهِ، وَانْقِيَادِهِ لِطَاعَتِهِ، وَصِدْقِ مُتَابَعَتِهِ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَانْبِسَاطِ نَفْسِهِ وَأُنْسِهَا وَنَشَاطِهَا وَإِقْبَالِهَا عَلَى طَاعَةِ مَوْلاَهُ، وَافْتِقَارِهَا لِلْعَوْنِ عَلَيْهَا مِنْ رَبِّهِ؛ وَمَنْ كَانَ هَذَا دَأْبَهُ فَقَدْ حَازَ عَلَى أَعْظَمِ وَأَكْمَلِ مَا يُوصِلُ إِلَى لَذَّةِ الآخِرةِ؛ بَلْ رُزِقَ الْفَرَحَ التَّامَّ، وَالسُّرُورَ الْكَامِلَ عَلَى الدَّوَامِ، فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاسْتَغِلُّوا أَوْقَاتَكُمْ فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ ؛ هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا » [رَوَاهُ مُسْلِم].

المرفقات

1688547448_فليفرحوا.doc

المشاهدات 1451 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا