فُـــــــــــرَصٌ شِـــــــــتْــــــوِيَّــــــــةٌ الجـــــــمعة 1442/4/19هـ

يوسف العوض
1442/04/16 - 2020/12/01 14:12PM
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : لَا تَغُرَّنَّكُمُ الدُّنْيَا ، فَإِن صَحِيحَها يَسقَمُ ، وجَديدَها يَبْلَى ، ونَعيمَها يَفْنَى ، وهَاهِي الْآجَالُ مَنْقُوصَةٌ ، وَالْأَعْمَالُ مَحْفُوظَةٌ ، وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً فَمَنْ زَرَعَ خَيراً فَيُوشِكُ أَنْ يَحْصِدَ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ ، وَمَنْ زَرَعَ شَرَّاً فَيُوشِكُ أَنْ يَحْصِدَ نَدَامَةً وَحَسْرَةً ، وَلِكُلِّ زَارِعٍ مَا زَرَعَ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي دَوَرَان الزَّمَانِ ، وَتَقَلُّبِ أَحْوَالِه ، حِكَماً بالغةً ، وأسراراً عميقةً ، قَد نُدْرِكُ بَعْضَهَا وَيَغِيبُ عَنَّا الْآخَرُ ، وَمِمَّا ظَهَرَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ حِكَمِ ذَلِكَ أَنْ تَتَهَيَّأ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ بِمَا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْفُصُولِ فُرَصُ الْعِبَادَاتِ قَدْ لَا تَتَهَيَّأُ لَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْفُصُولِ ، وَقَد يُبْتَلَى فِي بَعْضِهَا بِأُمُورٍ وَأَحْكَامٍ لِيَظْهَرَ صِدقُ عُبُودِيَّتِه ، وَكَمَالُ تَسْلِيمِه لِرَبِّه مِنْ سِوَى ذَلِكَ ، وَيَصِفُ الْإِمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلَ الشِّتَاءِ ومُذَكِراً بِفُرَصِه وَفَضلِه فِي كِتَابِهِ الْقَيِّم مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ  بِقَوْلِه : ( ففِي الشِّتَاءِ تَغَور ُالحَرَارَةُ فِي الْأَجْوَافِ وَبُطُونِ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ، وتَبرُدُ الظَّوَاهِرُ ويَستكثف الْهَوَاءُ فِيهِ ، فَيَحْصُلُ السَّحَابُ وَالْمَطَرُ وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ ؛ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَأَهْلِهَا ، وَاشْتِدَادُ أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ وَقُوَّتُهَا ، وتَزايدُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ ، وَاسْتِخْلَافُ مَا حلَّلتُه حَرَارَةُ الصَّيْفِ مِنْ الأَبدانِ ) .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : مَن الفُرَص الشِّتْوِيَّةِ الصَّوْمُ فِي نَهَارِ الشِّتَاءِ إذْ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ لبِرُودتِه وَقِصَرِه ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (الصوم فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الباردة) صَحَّحه الأَلبَانِي فِي صَحيحِ الجَامعِ ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ والمناجاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَهِي فُرْصَةٌ لِلْعِبَادِة لِطُولِه ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُاللَّه بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : (مرحباً بِالشِّتَاء تَنْزِلُ فِيهِ الْبَرَكَة ، يُطَوِّلْ فِيهِ اللَّيْلُ لِلْقِيَام ، وَيَقْصُرُ فِيهِ النَّهَار للصيام) وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : (قِيامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ يَعْدِلُ صِيَامَ نَهَارِ الصَّيْف ، وَلِهَذَا بَكَى مُعَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَقَال : إنَّمَا أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الهواجرِ وَقِيَامِ لَيْلِ الشِّتَاءِ ومزاحمةِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ حَلَقِ الذِّكرِ ) .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : ومَن الفُرَصِ الشِّتْوِيَّةِ إسباغُ الْوُضُوءِ ،  فبِقدْرِ مَا يَكُونُ الْبَرْدُ شاقاً فِي مَوْسِمِ الشِّتَاءِ فَإِنَّ الْأَجْرَ يَزْدَادُ ويتَضاعفُ ، فإسباغُ الْوُضُوءِ فِي تِلْكَ الأجْوَاءِ مِن أجلِّ الْأَعْمَال ،  لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ألا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ  قَال : إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُم الرباط ) رواه مسلمٌ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَمَن الفُرَصِ الشِّتْوِيَّةِ تَذَكُّرُ عَذَابِ الْآخِرَةِ ،  فيَتذكَّرُ الْإِنْسَانُ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ القَارِسِ زَمْهَرِيرَ جَهَنَّمَ أَيْ :شَدَّهُ برودتِها أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اشتكت النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بعضاً ؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ ، وَأَشَدّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزمهرير ) رواه البخاري ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعليقاً عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ : (فإن شِدَّةُ بَرْدِ الدُّنْيَا يَذْكُر زَمْهَرِير جَهَنَّم ؛ فملاحظة هَذَا الْأَلَم الْمَوْعُود يَهُون الْإِحْسَاس بِأَلَم بَرْد الماء) .
ولِذلكَ كانَ مِنْ فِقْهِ الشِّتَاءِ ومَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلُطْفِه وَكَرَمِه بِعِبَادِهِ أَنْ يَسَّرَ لَهُم أُمُورَ دِينِهِمْ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ فِي الشِّتَاءِ مِثْلُ :
– لِبسُ الجَوَارِبِ وَالْخِفَافِ لِاتِّقَاءِ الْبَرْدِ وَجَوَازُ الْمَسْحِ عَلَيْهَا إذَا لُبِسَا عَلَى طَهَارَةٍ ، وَمُدَّةُ الْمَسْحِ لِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ  وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ .
– إبَاحَةُ التَّيَمُّمِ إذَا خَافَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وعَدمِ وُجودِ وسَائلِ التَدفِئةِ.
– الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ فِي وَقْتِ إحْدَاهِمَا عِنْدَ الْمَشَقَّةِ فِي الشِّتَاءِ كهُطولِ الْأَمْطَارِ وَشِدَّةِ الرِّيحِ وَنُزُولِ الْبَرَدِ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَمَن الفُرَصِ الشِّتْوِيَّةِ التَّفَكُّرُ فِي الْجِهَادِ وفَضْلهِ ، فَمِنْ أَشَدِّ الْحُرُوبِ وَأَصْعَبَهَا الَّتِي تَقَعُ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ لِمَا يُصَاحِبُهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ الْأَمْطَارِ وَالرِّيَاحِ وَالْوَحْلِ ، وَقَد غَزَا النّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ غَزَوَاتٍ فِي الشِّتَاءِ مِثْلَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَالْخَنْدَق وَخَيْبَر ، وَلَا أَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : (خرج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَال :
اللَّهُمَّ إنْ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخرة   فاغفر لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ :
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا محمداَ       على الْجِـهَادِ مَا بَقِينَا أَبَـــــدَا
وَفِي هَذَا الْأَثَرِ فِي غَزْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّتَاءِ عَزَاءٌ لجنودِنا البواسلِ الْمُرَابِطِينَ عَلَى ثغورِنا بِأَنْ يَستشعِروا عَظِيمَ هَذِه الْمُرَابَطَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ النَّصَبِ وَالتَّعَبِ  .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : من الفُرَصِ الشِّتْوِيَّةِ الْقِرَاءَةُ وَالْكِتَابَةُ فِي الشِّتَاءِ فإنْ طَولَ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ غَنِيمَةٌ لِطَالِبِ الْعِلْمِ لِيَنْهَم مِنَ الْقِرَاءَةِ بِسَرْدِ الْمُطَوَّلَاتِ وَقِرَاءَةِ كُلِّ مَا هُوَ مُفِيدٌ وَجَدِيدٌ ، وَكَذَلِك فِرْصَةٌ لِمَنْ يَرْغَبُ فِي التَّأْلِيفِ وَالْكِتَابَةِ قال المُتَنبِي :
أعزُّ مـكانٍ فِي الدُّنا سَرْجُ سَابحٍ        وَخَيْرُ جَلِيسٍِ فِي الزَّمَانِ كِتَاب ُ
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : مَن الفُرَصِ الشِّتْوِيَّةِ الْعَوْدَةُ لِأَصَالَةِ الْمَاضِي وَفَاكِهَةِ الشِّتَاءِ ، فَفِي الشِّتَاءِ يَرْجِعُ الْبَعْضُ فِي مَوْسِمِ الشّتَاءِ إلَى الْمُكُوثِ فِي بُيُوتِ الشَّعْرِ وَتَرْكِيبِهَا فِي الْمَنَازِلِ العَصْريةِ شَوقاً لِلْمَاضِي ووقايةً مِنْ الْبُرُودَةِ فِي الْحَاضِرِ ، وقد اعْتَادَ الْكَثِيرُ مِنْ النَّاسِ فِي لَيَالِي الشِّتَاءِ الْجُلُوسَ حَوْلَ النَّارِ للتَّدْفِئَةِ وَالسَّمَرِ ، فَحَبَّذَا لَو استُغلت هَذِهِ الْمَجَالِسُ بِمَا يُفِيدُ مِنْ مُلَحِ الْعِلْمِ وَفَرَائِدِه وَفَوَائِدِه فالحَذَرُ كُلُّ الْحَذَرِ مِنْ النِّيرَانِ فَهِي عَدُوٌّ لَدودٌ ، فَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّ هَذِهِ النَّارَ إنَّمَا هِيَ عَدُوٍّ لَكُمْ ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عنكم )  مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَمِن الفُرَصِ الشِّتْوِيَّةِ مُساعدةُ الْفُقَرَاءِ والمحتاجينِ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ وَالْعِنَايَةُ بكِسوتِهم وغِذائِهم ولِحَافِهم وَتَفَقُّدُ أَحْوَالِهِمْ ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّه عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَال : ( أيما مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ الرَّحِيقِ المختوم  )  حَديثٌ صَحيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ يُحْسِنُون اسْتِقْبَالَ الْمَوَاسِمِ كُلِّهَا بِخَيْرِ عَملٍ يُقَرِّبُنَا إلَيْهِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ أَعْمَالَنَا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ .
المشاهدات 1291 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا