فعلوا فصدقوا
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ الذي جعلَ العملَ بُرهانًا، ليُميزَ به بينَ المُدّعينَ ومن آمَنوا إيمانًا. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، شهادةً أرجو بها النجاةَ في يومٍ وقتُه قد دنا وحانَا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي شرّفَه ربُّه على باقي الخلقِ وزانَا، صلى الله عليه وآلهِ وصحبِهِ، صلاةً وسلامًا أَدخرها عند ربِّي قُربانًا.
أيها الناسُ، أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، فإنه مَن يتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عنه سيِّئاتِهِ ويجعلْ له فُرقانًا، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: ٢٩].
وبعدُ: يقولُ اللهُ تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧].
تأمّلوا -رعاكم اللهُ- كيف ختمَ اللهُ الآيةَ بقولِه تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾، مع أنهم لم يتكلّموا، وإنّما آمنوا ثم عملوا؟!
هذا التعقيبُ بهذه الجملةِ، من ربِّ العالمين، على هذه الأعمالِ الجليلةِ من عبادِهِ المؤمنينَ، يقودُ إلى حقيقةٍ ومَنقَبةٍ ومرتبةٍ عَليّةٍ، يجبُ أن تكونَ جليّةً وواضحةً لدينا، وهي: أنَّ الصدقَ كما يكونُ في الأقوالِ، يكونُ في الأعمالِ والأفعالِ.
ولو سألَ سائلٌ، ليَستوضحَ هذا المفهومَ أكثرَ، فقال: يكونُ الكلامُ صِدقًا إذا طابقَ الوقائعَ والأحداثَ، فكيف يكونُ الفعلُ صِدقًا؟
لقلتُ له: يكونُ الفعلُ صِدقًا إذا طابقَ القولَ، فلا يدَّعي الإنسانُ ما لا يفعل، بل يقولُ ما يفعل، ويفعلُ ما يقول.
روى شدادُ بنُ الهادِ رضي اللهُ عنه: أنَّ رجلًا مِنَ الأعرابِ جاءَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فآمَنَ به واتَّبَعَهُ وقالَ: أُهاجِرُ معَكَ، فأوصى به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ. فلمَّا كانت غزوةٌ، غنِمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها أشياءَ، فقَسَمَ وقَسَمَ له، فأعطَى أصحابَهُ ما قَسَمَ له، وكان يرعى ظَهْرَهُم. فلمَّا جاءَ دَفَعوا إليهِ، فقالَ: ما هذا؟ قالوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لكَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فأخذَهُ فجاءَ به إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا محمدُ، ما هذا؟ قالَ: قَسمتُهُ لك. قالَ: ما على هذا اتَّبعتُكَ، ولكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أُرمَى هاهُنا -وأشارَ إلى حَلقِهِ- بسَهمٍ فأموتَ وأدخلَ الجنةَ. فقالَ: إن تَصدُقِ اللهَ يَصدُقْكَ. فلبثوا قليلًا، ثمَّ نَهَضوا إلى العدوِّ، فأُتِيَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحمَلُ، قد أصابَهُ سهمٌ حيثُ أشارَ. فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أهوَ هوَ؟ قالوا: نعم. قالَ: صدَقَ اللهَ فصدَقَهُ. وكفَّنَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جُبَّةٍ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى عليهِ. فكانَ ممَّا ظَهَرَ من صلاتِهِ عليهِ: اللهمَّ إنَّ هذا عبدُكَ، خرجَ مهاجرًا في سبيلِكَ، فقُتلَ شهيدًا، أَناشهيدٌ عليه.”
ومخالفةُ العملِ للقولِ خُلقٌ سيّءٌ، عابَهُ اللهُ في القرآنِ على أهلِ الكتابِ، فقالَ جلَّ ثناؤُه: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤].
وقال عزَّ وجلَّ، محذِّرًا المؤمنينَ من هذا الخُلُقِ المشينِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصَّف: ٢-٣].
ويكونُ الفعلُ صِدقًا، إذا طابقَ إيمانَ المسلمِ وما يَعتقِدُه، فلا يفعلُ أفعالًا تُناقِضُ إيمانَه، بل يأتي عملُه ثمرةً لإيمانِه وبرهانًا عليه.
فليسَ الإيمانُ عندَ الصادقينَ مجرَّدَ ادِّعاءٍ، بل دعوى أقاموا عليها البرهانَ والحُجَّةَ، فالتأَمَ بذلك ظاهرُهم وباطنُهم، ومظهرُهم ومخبرُهم.
وهذه حقيقةٌ جليَّةٌ في القرآنِ، يصلُ الأمرُ في وضوحِها إلى الحدِّ الذي يجعلُ فيه العملُ مُعرِّفًا للإيمانِ، فإذا أراد الله أن يعرِّفَ الإيمانَ في القرآنِ، فلا يُعرِّفُه بتعريفاتٍ نظريَّةٍ مُجرَّدةٍ، بل يُعرِّفُه بالعملِ، وإذا أراد أن يثنيَ على المؤمنينَ أثنى عليهم بأعمالِهم.
وذلك في مثلِ قولِه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٢-٤].
نعم، هناك إيمانٌ حقيقيٌّ، وإيمانٌ مُدَّعى، وبرهانُ ذلك هو العملُ.
المؤمنُ حقًّا هو الذي يُعرَفُ بعدلِه إذا ظلمَ النَّاسَ، وبعبادته إذا غفل النَّاسُ، وبإنفاقِه إذا أمسكَ النَّاسُ، وبعفوِه إذا انتقمَ النَّاسُ، وبحِلمِه إذا غضبَ النَّاسُ، وبتقواه إذا فَجَرَ النَّاسُ، وبحيائِه إذا تَهتَّكَ النَّاسُ، وبعفَّتِه إذا تفحَّشَ النَّاسُ، وبصلتِه إذا قطَعَ النَّاسُ.
ضرَبَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وصحابتُه -رضي اللهُ عنهم- أروعَ الأمثلةِ في صدقِ إيمانِهم، فكانت حياتُهم كلُّها دليلَ صدقِ إيمانِهم؛ أمروا بتوحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ له وتركِ ما ألِفوه من عقائدِهم الوثنيَّةِ السَّابقةِ، ففعلوا، أُمِروا بالهجرةِ وتركِ أوطانِهم وأموالِهم وأهلِهم ففعلوا، أُمِروا بالقتالِ وبذلِ نفوسِهم وأموالهم في سبيلِ اللهِ ففعلوا.
صاغَ الإيمانُ كلَّ سلوكِهم، في جميعِ شؤونِهم، في بيعِهم وشرائِهم، في نكاحِهم وطلاقِهم، بل حتَّى في خصوماتِهم وعداواتِهم.
فاجتازوا بذلك أصعبَ امتحانٍ وأعسرَه، فصدرت بعد ذلك النتيجةُ والشهادةُ بفلاحِهم ونجاحِهم، من اللهِ ربِّهم وكفى به شهيدًا، فقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٣-٢٤].
اللَّهُمَّ اجعلنا من المؤمنينَ الصادقينَ، وألحِقنا بالصَّالحينَ، أقولُ قولي هذا …
الثانية:
وبعد:
أيُّها الإخوةُ، نحنُ في ابتلاءٍ واختبارٍ، كالذي مرَّ به الصحابةُ -رضي اللهُ عنهم-، فإمَّا أن نقيمَ البرهانَ الصَّادقَ على إيمانِنا كما فعلوا، وإلَّا كان ادِّعاءً ينقصُه البرهانُ، فالجنةُ لا تُنالُ بالأماني.
يقول تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ١-٣].
إنَّ ممَّا ابتُلِيَتْ به الأمَّةُ، في زمانِنا هذا، هو الفجوةُ والهُوَّةُ بين عملِها وإيمانِها، وبين ما تدَّعيه قولًا وما تقومُ بعملِه فعلًا، سواءٌ على مستوى الأفرادِ أو المجتمعاتِ، إلَّا من رحمَ اللهُ.
فكم هي السلوكياتُ والأخلاقُ المناقضةُ والمصادمةُ لإيمانِنا وأوامرِ ربِّنا؟!
ولا سبيلَ لردمِ هذه الفجوةِ إلَّا بالعملِ الصَّالحِ، الذي نلحقُ به بركابِ الصادقينَ.
اللَّهُمَّ …