فضلُ عِمَارَةِ المسَاجِدِ، وطِبَاعَةِ المصحف الشَّرِيفِ.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، أحمدُهُ سبحانَهُ لا مَانِعَ لمَا وَهَبَ، ولا مُعْطِيَ لمَا سَلَبَ، تَعَالَى عن الشَّبِيهِ والنَّظِيرِ والنِّدِّ والْوَلَدِ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: فالتَّقْوَى ثمرةُ الصِّيَامِ، قالَ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
أيُّهَا الصَّائِمُونَ: هَا قَدْ حَلّ بِنَا شهرُ رمضانَ، وبدأَ السِّبَاقُ للجِنَانِ، هِيَ أيَّامٌ معْدُودَة وليالٍ مَحْدُودَة، وعلى قدرِ الشَّوْقِ لبلوغِ الآفاقِ، والصِّدْقِ في النِّيَّةِ والجِدِّ في السِّبَاقِ تكونُ المنزلةُ السَّامِيَةُ والمكانَةُ العَالِيَةُ، وتَتَنَوَّعُ الطَّاعَاتُ في رمضان بينَ الصِّيَامِ والقِيَامِ، والذِّكْرِ وقِرَاءَةِ القْرْآنِ، والصَّدَقَةِ والإنفَاقِ، وهمَا أوسَعُ أبوابِ البِرِّ؛ لتعدِّي نفعَهُمَا، وعمومِ أثَرِهِمَا.
عِبَادَ اللهِ: وعِمَارَةُ المسَاجِدِ وصيانتُهَا مِن أفْضَلِ أبْوَابِ البرِّ في رمضان، فهيَ مأوَى العابدينَ، وقِبْلَةُ المصلِّينَ، ومَلاذُ الرَّاكِعِينَ السَّاجِدِينَ، المشيُ إليهَا عِبَادَةٌ، والاعْتِكَافُ فِيهَا طَاعَةٌ، عِمَارَتُهَا دَلِيلُ الإيمانِ، وصِيَانَتُهَا قرينُ الإِحْسَانِ، والصَّدُّ عنْهَا جزَاؤُهُ الخِزْيُ والخُسْرَانُ، قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: (أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ البِلَادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا) أخرجه مسلم (671)
أيُّهَا المؤمنونَ: المسَاجِدُ هي بُيُوتُ اللهِ في أرْضِهِ، أَذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ ويُعْلَى فيهَا أَمْرُهُ، فأمَرَ بإقَامَتِهَا وعِمَارَتِهَا، وحثَّ على بِنَائِهَا وصيانتِهَا، قالَ تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}الحج: [26] وشَهِدَ اللهُ عزَّ وجلَّ لمَنْ يَعْمُرهَا بالإيمَانِ، قالَ سبحانَهُ:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ}التوبة:[18] وعِمَارَةُ المسَاجِدِ تكونُ بالصَّلاةِ والذِّكْرِ والدُّعَاءِ، وتَكُونُ بالتَّطْهِيرِ والصِّيَانَةِ والْبِنَاءِ، قالَ ﷺ: (مَن بَنى مسجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وجَهَ اللهِ بَنى اللهُ لَهُ مثْلَهُ في الجنَّةِ) أخرجه البخاري (٤٥٠) ومسلم (٥٣٣) وقالَ أيضًا: (مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ) أخرجه ابن حبان (1610).
عِبَادَ اللهِ: ولمَّا أقَامَ النبيُّ ﷺ في المدينةِ، بنَى مَسْجِدَ قُبَاء، أَوّلُ مَسْجِدٍ في الإسلامِ، ثمَّ بنَى مَسْجِدَهُ الشَّرِيف، وكانَ هذَا نهجُ أصْحَابِهِ مِنْ بعدِهِ في البلادِ الّتِي فَتَحُوهَا، فكَتَبَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنْهُ إلى وُلاتِهِ أنْ يَبْنُوا مَسْجِداً جَامِعاً في مَقَرِّ الإِمَارَةِ، ويَأْمُرُوا القَبَائِلَ والقُرَى بِبِنَاءِ مَسَاجِد جماعة في أماكنِهِم، وعلى هذا سَار السَّلَفُ الصَّالِحُ في بناءِ المساجدِ وتطْهِيرِهَا، وتَشْيِيدِ المآذِنِ ورَفْعِهَا.
أيُّهَا المؤمنونَ: وعلى هذا النَّهْجَ القويمِ سارَ ولاةُ أمرِ هذهِ البلادِ في تشييدِ المساجِدِ وتأْسِيسِهَا، وصيانَتِهَا وتطْهيرِهَا، يَرَى ذلكَ كُلُّ مُبْصِرٍ، ويَعْلَمُ هَذا كلُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ. ولا أعْلَمُ –فيمَا أَعْلَمُ- بَلَدًا من بِلادِ الإسلامِ اليومَ تُنْفِقُ بِسَخَاءٍ في عِمَارَةِ المسَاجِدِ وصِيَانَتِهَا مثل بِلادنا -زادَهَا اللهُ أمْنًا وإيمَانًا-التي تمتَلِكُ سِجِلًّا نَاصِعًا، ويَدًا طُولَى في عمارَةِ المساجِدِ، انطلاقًا من الثَّوَابِتِ الدينيَّةِ، والأصولِ العقديَّةِ التي قامتْ عليهَا.
أيُّهَا المؤمنونَ: ومِمَّا يَدُلُّ عَلى مَكَانَةِ عِمَارَةِ المسَاجِدِ ونَظَافَتِهَا وصِيَانَتِهَا مَا جاءَ في الصَّحِيحَيْنِ منْ حديثِ أبِي هريرةَ رضيَ اللهُ عنْهُ أنَّ رَجُلًا أسْوَدَ أوِ امْرَأَةً سَوْداءَ كانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَماتَ، فَسَأَلَ النبيُّ ﷺ عنْه، فَقالوا: ماتَ، قالَ: أفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي به دُلُّونِي على قَبْرِهِ - أوْ قالَ قَبْرِها - فأتى قَبْرَها فَصَلّى عَلَيْها) أخرجه البخاري (458).
أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}النور: [36ــ 38].
أقولُ قولِي هذا، وأستغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي ولَكُمْ ولِسَائِرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبةُ الثَّانِيَةُ:
الحمدُ للهِ الكريمِ المنَّانِ، أمَرَ بالبذْلِ والإحْسَانِ، وَوَعَدَ بالأجْرِ والرَّحْمَةِ والغُفْرَانِ أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ الواحِدُ القَهَّارُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْحَقُّ المبِينُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً للعالمينَ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، واعْلَمُوا أنَّ مِنْ أَعْظَمِ أبوابِ الْخَيْرِ في شَهْرِكُمْ هَذا القرآن الكريم، والعناية به قراءةً وتدَبُّرًا، وتعلِيمًا وتعلُّمًا، فهو كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وعُمْدَةُ الملَّةِ، وينبوعُ الحِكْمَةِ، وآيَةُ الرِّسَالَةِ، ونورُ الأَبْصَارِ والبصَائِرِ، لا طريقَ إلى اللهِ سِوَاهُ، ولا نجاةَ بغيرِهِ ، ولقدْ حَظِيَ القرآنُ الكريمُ بعنايَةٍ كبيرةٍ منذُ عهدِ النَّبِيِّ ﷺ إلى يومِنَا هذا، مِنْ نَاحِيَةِ جَمْعِهِ وتَدْوِينِهِ، وحِفْظِهِ وتَعْلِيمِهِ، ونَشْرِهِ وطِبَاعَتِهِ، ولمْ يَعرِف العالمَ أجمع كتابًا حصلَ على هذا الاهتمام والجهد والعنايةِ كالقرآن الكريم.
وبلادُنا -حفظهَا اللهُ- تُكَرِّسُ الجهودَ الماليَّةَ والبدنيَّةَ والتكنولوجيَّةَ لخدمةِ القرآنِ الكريمِ، والعنايةِ بهِ، وطباعتِهِ ونشرِهِ، ومِنْ فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنَّ وزارةَ الشُّؤُونِ الإسلاميَّةِ في بلادِنَا أتَاحَتْ عَبْرَ مِنَصَّةِ إِحْسَان اسْتِقْبَالَ الصَّدَقَاتِ لعمارَةِ المساجِدِ وطباعةِ المصحفِ الشَّرِيفِ، وهي مبادَرَةٌ طيِّبَةٌ وتَيْسِيرٌ للخَيْرِ ودَلالَةٌ عليهِ.
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُعِينَنَا على الصِّيَامِ والقِيَامِ، والصَّدَقَةِ والْبَذْلِ والإِحْسَانِ، وأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ، وأنْ يَرْزُقَنَا إِخْلاصَ النِّيَّةِ، وَعُلُوّ الْهِمَّةِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وحُبَّ المسَاكِينِ، وأَنْ تَحْفَظَنَا مِنْ مُضِلَاّت الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن يَا ذَا الْجَلالِ والإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ أَحْسِِْن عَاقبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآَخِرَةِ.
اللَّهُمَّ أمِّنَا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أمُورِنا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عَامَّةً لِلْحُكْمِ بكتابِكَ والْعَمَلِ بِسُنَّةِ نبيِّكَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وسُمُوَّ وَلِيِّ عَهْدِهِ لِكُلِّ خَيْرٍ، واصْرِفْ عَنْهُمَا كُلَّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُمْ وأَعْوَانَهُم ووُزَرَاءهُمْ لما فِيهِ خَيْرُ الْبِلادِ والْعِبَادِ، ولمَا فِيهِ عِزُّ الإسْلامِ وَصَلاحُ المسْلِمِينَ.
اللَّهمَّ ارْبِطْ على قُلُوبِ رجَالِ الأمنِ، والمرَابِطِينَ عَلَى الْحُدُودِ، الّذِينَ يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ، اللهُمَّ احفظهمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمِ ومِنْ خَلْفِهِمِ وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الجمعَ مِن المؤمِنِينَ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّهُمْ، وَنَفِّس كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ دِيُونَهُم وَاشْفِ مَرْضَاهُم، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، واغْفِرْ لَهُم ولآبَائِهِم وأُمَّهَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَوَالِدِينَا وَأَزْوَاجنا وذُرِّيَّاتِنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وصَلَّى اللهُ عَلى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 2-9-1444هـ