فضل عشر ذي الحجة وما يشرع فيها من الأعمال
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: هناكَ أيامٌ يمتنُّ بها اللهُ سبحانه على عبادِه، يترقَّبُها المؤمنونَ، ويشتاقُ إليها العبَّادُ والصالحون، رفعًا للدَّرجات، وتكثيرًا للحسنات، وتكفيرًا للسيئات، وتعويضًا عن التقصيرِ فيما مضى وفاتْ؛ ومن ذلك العَشْرُ الأوائِلُ من ذي الحِجَّةِ، فهي أيامٌ عظيمةٌ، وموسمٌ رابحٌ من مواسِمِ الطاعاتِ، ينبغي الاجتهادُ فيها، لكونِها أعظمَ أيامِ السنةِ كلِّها، لاجتماعِ أمَّهاتِ العبادةِ فيها، وما رتَّبَ اللهُ فيهَا من الأجورِ والدرجاتِ.
فقد جاءَ في فضلِها وأهمِّيتِها وعظيمِ قدرِها إقسامُ اللهِ تعالى بهَا، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر:1-2]، وشهادةُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّها أفضلُ أيامِ الدُّنيا، وحثُّه على العملِ الصالحِ فيهَا، وأمرُه صلى اللهُ عليه وسلم بالإكثارِ فيهَا من ذكرِ اللهِ جلَّ وعلا. فعن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (ما العَمَلُ في أيّامٍ أفْضَلَ منها في هذِه؟ قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: ولا الجِهادُ، إلّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِهِ ومالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ) رواه البخاري (969).
فعلينَا أن نخصَّ هذه العشرَ بمزيدِ اهتمامٍ وعنايةٍ وأَنْ نحرصَ على مجاهدةِ أنفسِنا بالطاعةِ، وأن نَستغلَّ كلَّ دقيقةٍ في زيادةِ العملِ الصالحِ فيها.
أيُّها المؤمنون: ومما يُشرعُ في هذهِ العشرِ المباركةِ ما يلي:
أولاً: أداءُ مناسكِ الحجِّ والعمرةِ: فهما من أفضلِ الأعمالِِ الصالحةِ، لقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(العُمرةُ إلى العُمرةِ كفارةٌ لما بينهمَا، والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنَّةِ) رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
ثانياً: صيامُ الأيامِ التسعةِ كلِّها أو بعضِها: والصومُ من أجلِّ الأعمالِ التي يحبُها اللهُ تعالى ويجازي عليها أجورًا عظيمةً، لقوله تعالى في الحديثِ القدسيِ: (كلٌّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلا الصومَ فإنَّه لي وأنَا أجزي به) رواه البخاري (5927)، ومسلم (1151)، فيُستحبُّ للمسلمِ أن يصومَها كلها أو بعضها، لأنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلَّم حثَّ على العملِ الصالحِ فيها، وخصَّها صلى اللهُ عليه وسلَّم أيضا بصيامِ يومِ عرفةَ لغيرِ الحاجِّ، لعظيمِ فضلِه وأجرِه فقال: (صيامُ يومِ عرفةَ احتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه والتي بعدَه) رواه مسلم (1162).
ثالثًا: الأضحيةُ: وهي سنةٌ مؤكدةٌ، مَنْ أتى بها فقد شَكَرَ ربَّه، وامتثلَ أمرَه، وعَمِلَ بهديِ نبيِّه صلى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعن جابرٍ رضي الله عنه أنَّه قال: شَهِدْتُ معَ رسولِ اللَّهِ ﷺ الأَضحى بالمصلّى، فلمّا قَضى خطبتَهُ نزلَ من منبرِهِ، وأُتِيَ بِكَبشٍ فذبحَهُ رسولُ اللَّهِ ﷺ بيدِهِ، وقالَ:(بسمِ اللَّهِ واللَّهُ أَكْبرُ، هذا عنِّي، وعمَّن لَم يضحِّ من أمَّتي) رواه أبو داود (2810)،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2810)، وعن أنسٍ رضي اللهُ عنه أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (كانَ يُضحِّيْ بكبشينِ أقرنينِ أملحينِ وكانَ يُسمِّي ويكبِّرُ) رواه البخاري (5565)، ومسلم (1966). ومن أرادَ أَنْ يُضحيَ فعليه أَنْ يُمسكَ عن أخذِ شعرِه وظفرِه، سواءٌ وكَّل غيرَه في ذبحِ أضحيتِه أو ذبحهَا بنفسِه، قال صلى اللهُ عليه وسلَّم:(إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ) رواه مسلم (1977).
رابعاً: الإكثارُ من ذكرِهِ تعالى: بالتكبيرِ والتهليلِ والتحميدِ والتسبيحِ؛ قال صلى اللهُ عليه وسلَّم:(ما مِنْ أيامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحبُّ إليه العملُ فيهنَّ من هذهِ الأيامِ العشرِ، فأكثرُوا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ) رواه أحمد (5446).
وعن ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ رضي اللهُ عنهمَا أنَّهما كانا يَخرجانِ إلى السوقِ في أيامِ العشرِ يُكبِّرانِ ويكَّبرُ الناسُ بتكبيرهِما. وكانَ عمرُ رضي اللهُ عنه يُكبِّر في قُبَّتِه بمنى فيسمعُه أهلُ المسجدِ فيكبرونَ، ويكبِّر أهلُ الأسواقِ حتى ترتجُّ منى ًتكبيراً. رواه البخاري (1/246) معلقا مجزوما به. فيُشرعُ التكبيرُ المطلقُ بعدَ دخولِ عشرِ ذي الحجَّةِ إلى غروبِ شمسِ اليومِ الثالثِ عشرَ من ذي الحجَّةِ.
أعوذُّ باللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا* تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}[الأحزاب:41ـ 44].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضلهِ وإحسانهِ، والشُّكرُ لهُ على تَوفيقهِ وامتنانهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه ومن سارَ على نهجِه إلى يومِ الدين، أما بعد:
فاتَّقوا اللهّ عبادَ اللهِ: واعلموا أنَّ من الأعمالِ المشروعةِ أيضًا في هذهِ العشرِ ما يلي:
خامسًا: المحافظةُ على صلاةِ الفريضةِ والإكثارُ من النوافلِ: وهي من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى، وأجلِّها وأكثرِهَا فضلاً، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّم فيما يَرويه عن ربِّه:(.. وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتّى أُحِبَّهُ،..) رواه البخاري (6502).
سادساً: جميعُ الأعمالِ الصالحةِ التي شَرَعَها اللهُ جلَّ وعلا ونبيُّه صلى اللهُ عليه وسلَّم كبرِّ الوالدينِ، وصلةِ الأرحامِ، وقيامِ الليلِ، وتلاوةِ القرآنِ، والبذلِ والإحسانِ، وكفالةِ الأيتامِ، وإعانةِ المسلمينَ، وقضاءِ حوائجهِم، وإفشاءِ السلامِ، وإطعامِ الطعامِ، وسائرِ الأعمالِ الصالحةِ الأخرى. فاحرصوا باركَ اللهُ فيكم على استغلالِها، وليكنْ همُّكم إرضاءَ ربِّكم، ونيلَ رحمتهِ وجنتهِ. والموفقُ مَنْ وفقهُ اللهُ وأعانهُ على طاعتِه، وَصَرَفَ عنهُ العوائقَ والمثبطاتِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56]. الجمعة: 11/29/ 1442هـ