فضل رمضان والأعمال الصالحة فيه
الشيخ محمد بن هديب المهيدب رحمه الله
فضل رمضان والأعمال الصالحة فيه([1])
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الكريمِ المَنَّان، أحمدُهُ سُبحانه وهو الواحدُ الدَّيَّان، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسُولُهُ سَيِّدُ ولدِ عَدنان، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم على عبدِك ورسولكَ محمدٍ وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المسلمون- حَقَّ التقوى.
عبادَ الله:
بُلوغُ رمضانَ فُرْصةٌ للمؤمنِ يغتنِمُها لصالِحِه، ومَجالٌ واسعُ المَدى للتزوُّدِ من الباقياتِ الصالحات، والتنافُسِ في إعدادِ رصيدٍ ضخمٍ منها يعْتَدُّ به لمَعادِه، يومَ تَكسَدُ كلُّ تجارَة، ولا يَربحُ إلا مَن عامَلَ الله، واتخَذَ إليه سبيلًا لبُلُوغِ رِضاه؛ كما قال سُبحانه: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾([2]).
وإذا كان لبعضِ الشُّهورِ والأيامِ مَزايا اختَصَّها اللهُ بها؛ فإن شَهرَ رمضانَ أُنزِلَ فيه القرآنُ كتابَ هدايةٍ ورَشاد؛ كما قال سُبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾([3])، وفيه النَّفَحاتُ الإلهيةُ لرَبِّ العِزَّةِ سُبحانه، وإقالةُ العَثَرات، وتكفيرُ السيئات، وتَنَزُّلُ الرَّحَمات.
أيُّها المسلم:
لئنْ كان لكُلِّ عبادةٍ من العباداتِ أهدافٌ عظيمةٌ تَظهَرُ فيها المَصلحة، وتَتَجلَّى فيها الحكمة، فإن من أبرزِ أهدافِ الصومِ وحِكَمِهِ الإعدادَ للتقوى، والتَّرَقِّي في مَدارِجهَا؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾([4])، وعلى التقوى مَدارُ السعادةِ في العاجلةِ والعُقبى؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾([5])، وقال سُبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾([6]).
والمسلمُ يَعْتزُّ بدِينِه، ويُوقِنُ في قَرارةِ نفسِهِ أنَّ شريعةَ اللهِ ليسَ فيها إلا الحِكَمُ والمَصالح، يرى المسلمُ في الصومِ تهذيبًا وتدريبًا واستعلاءً على الشهوةِ لِئَلَّا تَسْتعبِدَه، فمن استَعبَدَتْهُ الشهوةُ أصبح أسيرًا لهواه، بخلافِ مَن يرى أنَّ الصومَ تعذيبٌ وحِرمان، وحَظرٌ عن الشهوات، وفَطْمٌ عن المَلَذَّات ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾([7]).
والتهذيبُ والتدريبُ الذي هو هدفٌ من أهدافِ الصوم، وحِكمةٌ من حِكَمِهِ أفصحَ عنه بعضُهم بقولِه: (يستثيرُ الصومُ الشَّفَقَة، ويحُضُّ على الصدقة، ويَكسِرُ الكِبْر، ويُعَلِّمُ الصبر، ويَسُنُّ خِصالَ البِر)([8])، وكُلُّ أولئكَ -يا عبادَ الله- كَسْبٌ للمسلِمِ يقعُ في حِسابهِ حينَ يُؤَدِّي فريضةَ الصوم، بجانِبِ تَعَلُّمِهِ دَرْسَ الصبر، فمَن صَبَر على الجوعِ وحَرِّ الظَّمَأِ شهرًا كاملًا فقد امتلكَ زِمَامَ نَفسِه، وجاهدها في اللهِ حَقَّ جهادِه.
ومن مَظاهِرِ الصبرِ التي يَتَّسِمُ بها المسلمُ الصائم: الصبرُ على الزَّلَّة، وعدمُ مقابلةِ الإساءةِ حِفظًا للصيام، وتَزَوُّدًا بالتقوى التي يُتَرجِمُ عنها الصائمُ بصونِ اللِّسان، والتَّجافي عن الآثام ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾([9])، وبالتَّرَفُّعِ عن النميمةِ والكذب، والغيبةِ والغِشِّ والتدليس، وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطِل، وكُلُّ ما يُعتبرُ إثمًا يجبُ التَّجَافي عنه، ولئن كان ذلك محظورًا على المسلمِ في غيرِ رمضان، فإنه في رمضانَ أعظمُ حَظْرا، إِذْ يَجْنِي على الصيامِ ويُضيعُ الأَجر؛ كما جاء في الخبر: «رُبَّ صائمٍ حَظُّهُ من صيامِهِ الجوعُ والعَطَش»([10])، «إنما الصِّيَامُ من الَّلغْوِ والرَّفَث»([11])، وفي الخبرِ الآخَر: «إِذا كان يومُ صومِ أحَدِكُم فلا يَرْفُث ولا يَصْخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ فلْيقُل: إني صائم»([12])، كُلُّ ذلك لحِفظِ للصيام، ولينالَ الصائمُ الأجرَ تامًّا غيرَ منقوص، وهو من التَّرَقِّي في مَدارِجِ التقوى.
عبادَ الله:
إن مما يَعْظُمُ به الأجرُ: بَذْلَ الإحسانِ والبِرَّ في رمضان، وهو من أسبابِ المغفرةِ والرِّضوان، فأفضلُ الصدقةِ صدقةُ رمضان؛ كما جاء في الخبر: «مَن فَطَّرَ فيه صائمًا كان مغفرةً لذُنوبِه وعِتْقَ رَقَبتِهِ من النار» قالوا [أي الصحابة]: ليس كُلُّنا يجدُ ما يُفَطِّرُ الصائم، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يُعطِي اللهُ هذا الأجرَ مَن فَطَّرَ صائمًا على تَمرة، أو شَرْبةِ ماء، أو مذْقَةِ لبن»([13])، فَمَن أكثَرَ البِرَّ وزاد في العطاء، فإنَّ اللهَ جوادٌ كريمٌ يُحِبُّ الجودَ والكَرَم.
فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المسلمون- ولا تَنْسَوا إخوانَكُم وجيرانَكُم وذَوِي قَرابَتِكُم، وارفَعُوا العِوزَ عن الفقراءِ والمساكينِ مِمَّن حَولَكُم، واللهُ في عَونِ العبدِ ما كان العبدُ في عَونِ أخيه.
ونسألُهُ سُبحانه كما بَلَّغَنا هذا الشهرَ الكريمَ أن يُعينَنا على الصيامِ والقيام، وأن يتقبَّلَه منا، وأن يختِمَ لنا شهرَ رمضانَ بالفوزِ بالجنة، والعِتقِ من النيران، فمَن صام رمضانَ وقامه إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِن ذنبه.
غَفرَ اللهُ لنا ولكم ولإخوانِنا المسلمين، وتَقبَّل منا، قال سُبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾([14]).
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، وفي سنةِ سيدِ المرسَلين، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفِرُوهُ إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي يَسَّرَ لعبادِهِ سُبُلَ الطاعةِ والإحسان، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسُولُه، خيرُ مَن دَعا إلى الهُدى وطاعةِ الرحمن، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وزِد وبارِك على نبيِّنا محمد، وعلى آلِه وصَحبِه خيرِ صَحبٍ وأكرمِ إخوان.
أما بعد:
فاتُّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- حَقَّ التقوى.
أيُّها المسلمون:
الحمدُ للهِ أنْ بَلَّغَنا شَهْرَ الصيام، ونشكُرُه سُبحانه على نِعَمِه العِظام، ونسألُهُ أن يتقَبَّلَ منا أجمعِين، ومن إخواننا المسلمين، وأن يَخْتِمَ لنا بخاتِمةِ السعادة: الفوزِ بالجنة، والنجاةِ من النار.
إن من أعمالِ البِرِّ في هذا الشهرِ: التَّسامُحَ والعفوَ والرحمةَ بين المسلمين، وثَمَّةَ مَن حُرِمَ الُحرِّيَّةَ بسببِ دُيُونٍ لم يَستَطِع سَدادَها، فمن البرِّ مُساعدةُ هؤلاءِ في فَكِّ رقابِهِم، والعِنايةُ بأُسَرِهِم وأهلِهِم، بجانِبِ العِنايةِ بالأقارِبِ وذَوي الأرحامِ المحتاجينَ والجيرانِ وغيرِهِم، وفَّقَ اللهُ الجميعَ لِما يُحبُّه ويَرضاه.
صَلُّوا بعد هذا على البشيرِ النذير، والسِّراجِ المنير، محمدِ بنِ عبدِ الله، وعلى الآلِ الطيبينَ الطاهرين، وعلى الزوجاتِ الطاهراتِ أُمَّهاتِ المؤمنين، وارْضَ اللهُمَّ عن خُلفاءِ نبيِّك الراشدِين: أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، ومَن تَبِعهُم بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّين.
([1]) أُلقيت في 9/9/1444ه.
([2]) الكهف: 46.
([3]) الإسراء: 9.
([4]) البقرة: 183.
([5]) الطلاق: 2-3.
([6]) الطلاق: 5.
([7]) القصص: 50.
([8]) "أسواق الذهب" لأحمد شوقي (84).
([9]) الأنعام: 120.
([10]) أخرجه الإمامُ أحمدُ في مسنده (8856) من حديث أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع الصغير وزياداته" (3490).
([11]) أخرجه ابنُ خُزيمة (1996) وابنُ حِبان (3479) والحاكم (1570) وقال: «حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يُخرجاه» من حديث أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه.
([12]) أخرجه بنحوه مسلم (1805) من حديث أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه.
([13]) أخرجه ابنُ خُزيمة (1887) والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (3336) من حديث سلمان الفارسي رضي اللهُ عنه، وضعَّفه الألبانيُّ في تحقيقه لـ "مشكاة المصابيح" (1965).
([14]) البقرة: 183-184.