فضل المحرم وأهمية المحاسبة والتهنئة بالعام الجديد 1443/12/30 هـ

عبد الله بن علي الطريف
1443/12/30 - 2022/07/29 00:58AM

فضل المحرم وأهمية المحاسبة وحكم التهنئة بالعام الجديد 1443/12/30 هـ

أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده، أن يوالي عليهم مواسم الخيرات.. ليستثمروها ويزدادوا تقرباً إليه؛ ومواسم الخير فُرَصٌ.. مَنْ وُفِقَ لاغتنامِها وُفِقَ لخيرٍ كثير.. فما إن انقضى شهر الحج وعشرُه المبارك إلا وتبعه شهر الله المحرم.. ذلكم الشهر الذي خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنسْبَةِ إِلَى الله فقَالَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ». رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وهو الذي اختاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لبداية العام، قالَ ابنُ حجر رَحِمَهُ اللهُ في فتح الباري: "عَنْ الشَّعْبِىِّ قَالَ: إِنَّ أَبَا مُوسَى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما إِنَّهُ يَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَارِيخٌ؛ فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَرِّخْ بِالْمَبْعَثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرِّخْ بِالْهِجْرَةِ؛ فَقَالَ عُمَرُ: الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَأَرِّخُوا بِهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ فَلَمَّا اتَّفَقُوا قَالَ بَعْضُهُمْ: ابْدَءُوا بِرَمَضَانَ؛ فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ بِالْمُحَرَّمِ؛ فَإِنَّهُ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ فِي تَارِيخِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْحَاكِمُ.  وقالَ رَحِمَهُ اللهُ : "وَقَدْ أَبْدَى بَعْضُهُمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَةً فَقَالَ كَانَتِ الْقَضَايَا الَّتِي اتُّفِقَتْ لَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤَرَّخَ بِهَا أَرْبَعَةً مَوْلِدُهُ وَمَبْعَثُهُ وَهِجْرَتُهُ وَوَفَاتُهُ فَرَجَحَ عِنْدَهُمْ جَعْلُهَا مِنَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ الْمَوْلِدَ وَالْمَبْعَثَ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنَ النِّزَاعِ فِي تَعْيِينِ السَّنَةِ وَأَمَّا وَقْتُ الْوَفَاةِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنَ الْأَسَفِ عَلَيْهِ فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَةِ وَإِنَّمَا أَخَّرُوهُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى الْمُحَرَّمِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ إِذِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ ذِي الْحِجَّةِ وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْهِجْرَةِ فَكَانَ أَوَّلُ هِلَالٍ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْبَيْعَةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ مُبْتَدَأً وَهَذَا أَقْوَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الِابْتِدَاءِ بِالْمُحَرَّمِ"

الْمُحَرَّمِ أحدُ الأشهرِ الحرم التي قال الله عنها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ..) [التوبة:36].

 وقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالـمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَالَ: «شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ» رواه ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.  

قال النووي رَحِمَهُ اللهُ: وقوله ﷺ: هذا تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم.. وسماه شهر الله لتشريفِه وتعظيمه، وكلُ معظمٍ يُنسبُ إليه سبحانه.. ولذا يسن الإكثار فيه من الصيام لاغتنامِ هذا الفضل.. قال بعضهم: إنما هو غداء وعشاء فإن أخرت غداءك إلى عشاءك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين..

أيها الإخوة: وهنا أمور أود بيانها أولها: إن من حكمته تعالى أنه أوجد لنا معالم في هذا الكون تحملنا على الذكرى.. انظروا إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال.. ثم تنمو رويدًا، رويدًا كما تنمو الأجسام.. حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال..

وهكذا الأعوام تتجدّد على الإنسان عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا فينصرم العامُ كلمح البصر فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به وقد هجم عليه الموت وصار خبر بعد عين..

يؤمّل الإنسان بطولِ العمر ويتسلَّى بالأماني فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الآمال قد انهدَم..

قال أبو الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك.. وقال أبو حازم: عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة.

أيها الإخوة: إذا كانت الأيام كذلك فينبغي لكل واحد منا أن يقف مع نفسه ويحاسبها محاسبةً جادة قبل أن تحاسب قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:18،19] قال ابن كثير أي: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَانْظُرُوا مَاذَا ادَّخَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَوْمِ مَعَادِكُمْ وَعَرْضِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ..".

ومعنى المحاسبة كما قال الماوردي رَحِمَهُ اللهُ: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عمل مثله. اهـ.

قال أبو حامد الغزالي: اعلم أن العبدَ (ينبغي أن) يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، وينبغي أن يكون له فِي آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةٌ يُطَالِبُ فِيهَا النَّفْسَ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى جَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، كَمَا يَفْعَلُ التُّجَّارُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ حِرْصًا منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته، ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلا أياما قلائل، فكيف لَا يُحَاسِبُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خَطَرُ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ أَبَدَ الْآبَادِ.. مَا هَذِهِ المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك..

أيها الإخوة: وللمحاسبة فوائد متعدّدة ومنافع متكاثرة، منها: الاطلاع على عيوب النفس ومثالِبها ونقائِصها، فمن اطلع على عيب نفسه أنزلها منـزلَها وبادر في إصلاحها.

ومنها: أنها تربي الضمير الحيّ، عند الإنسان وتنمي الشعور بالمسؤولية، ووزن الأعمال بميزان دقيق هو ميزان الشرع، قال ابن القيم: أضرّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب. اهـ.

وقال حاتم الأصم: تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتّ فاذكر علم الله فيك، وقال بلال بن سعد: لا تكن وليًا لله في العلانية وعدوَّه في السر.. وَقَالَ آخَرُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلانِ فِيك فَاعْمَلْ فِيهِمَا. وَقَالَ آخَرُ: اعْمَلُوا لآخِرَتِكُمْ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَسِيرُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ..

وقال الأخر:

      نسيرُ إلى الآجال فِي كلِ لحظةٍ          وأعمارُنا تطوى وهنَّ مراحلُ

      ترحل من الدنيا بزادٍ من التقـى           فعمــرُك أيـامٌ وهُنَّ قلائـلُ

 أيها الإخوة: لننظر في صحائف أيامنا التي خلت من سنين ما الذي ادخرنا فيها لآخرتنا؟! لننظر بماذا تكلم اللسان؟! وماذا رأت العينان؟! وماذا سمعت الأذنان؟! وأين مشت القدمان.؟! وبماذا بطشت اليدان.؟! ولنحاسب أنفسنا على الفرائض ماذا أدينا منها.؟ والمنهيات ماذا تركنا منها.؟ ونحاسبها على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، وهي تحثُّ بنا السير إلى الآخرة.. 

روي أن أبا الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. سمع رجلاً يسأل عن جنازة مرت يقول من هذا؟ فقال أبو الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "هذا أنت" يعني أن الجميع إلى هذا المصيرِ صائر فاستعدّ لذلك. ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.

أيها الإخوة: اعلموا أن محاسبة النفس ليست مقصورة على نهاية العام كما يتناقله الناس في مثل هذه الأيام.. بل الواجب على المسلم أن يقف مع نفسه كل يوم يحاسبها على ما قدمت وأخرت فالأيام خزائن الأعمال.. ولذلك يقول ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ». رواه مسلم عَنْ الْأَغَرِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. والتوبة ولاستغفار جزء من المحاسبة ونتيجة لها.. وعلى هذا فقصرها على نهاية العام خطأ.. اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، وبارك في أعمالنا وأعمارنا، واختم بالصالحات أعمالَنا، وصلى وسلم الله على محمّد..

الخطبة الثانية:

أما بعد: أيها الإخوة اتقوا الله حق التقوى، ثم إن من الأمور التي يكثر تبادلها بين الناس في هذه الأيام التهنئة بالعام الهجري فما حكم ذلك.؟ الأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة وهي من الأمور العادية وليست من الأمور التعبدية.. ويرى شيخنا محمد العثيمين رَحِمَهُ اللهُ: أن الأولى ألا يبدأ بها الإنسان، ولكن إن هنئ فلا ينبغي له أن ينكر، بل يجعل الرد بالدعاء.. ومنهم من بدأ بالتهنئة مثل الشيخ عبد الرحمن السعدي رَحِمَهُ اللهُ فقد بعث كتابا لأحد طلابه وكان في ديباجة رسالته: ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم ودفع عنا وعنكم النقم. والأمر فيه سعة. 

واعلموا أنَّ ربط طي الصحائف بنهاية العام الهجري خطأ ولا أصل له..

ذلك أن الأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس، قَالَ ﷺ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» أي أخروا. رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أسأل الله أن يوفقنا لإتباع هدي رسولنا إنه جواد كريم...

 

المشاهدات 4734 | التعليقات 0