فضل القرآن الكريم تلاوة وتدبرا

الخطبة الأولى: فضلُ القرآنِ الكريمِ تلاوةً وتدبراً

 الحَمدُ لِلَّـهِ الرّحِيمِ الرّحمَنِ، أَكرَمَنَا بِالقُرآنِ، وجعلَه هدىً للناسِ وبيناتٍ من الهدى والفرقانِ. وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وحدَهُ لا شريكَ له العَظِيمُ المنَّانُ، وَأَشهَدُ أَنّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ المَبعُوثُ بِالقُرآنِ ، صَلَّى اللَّـهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ ذَوِي التُّقَى وَالإِحسَانِ.           أَمَّا بَعدُ: فأوصيكم ...

عن أبي ذرٍّ tأنه قال: قامَ النبيُّ  rبآيةٍ حتى أصبحَ بها يركعُ وبها يسجُد، وهي قولُه تعالى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَـهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ) أحمد وغيرُه.

عباد الله: إنَّ أفضلَ الذكرِ هو قراءةُ القرآنِ الكريمِ، خصوصًا في رمضانَ المباركِ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الـهُدَى وَالْفُرْقَانِ). قال أهلُ العلم: إنما خصَّ اللـهُ شهرَ رمضانَ بفرضِ الصوم لِما حصل للناسِ فيه من إكمالِ النعمةِ عليهم بإنزالِ القرآنِ الكريمِ.

فالقرآنُ الكريمُ: سميرُ القلوبِ ومُستراحُها، وأنيسُ الأرواحِ وروْحُهَا، ونورُ الصدورِ وانشراحُها، ونعيمُ العقولِ وغِذائُها، وربيعُ الصائمينَ وحِداؤُهم (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

القرآنُ المبينُ: هُدىً لا تنطفئُ أنوارُه، وبحرٌ لا تنتهي أسرارُه، ومنهجٌ لا يَضِلُ منارُه، وبرهانٌ لا يُغلبُ مدارُه، وعزٌ لا يُهزم أنصارُه (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

 القرآنُ المجيدُ: عزٌ تليدٌ لمن تولاه، وسُلمٌ مُوصلٌ لمن ارتقاهُ، وهُدىً مُستقيمٍ لمن استهداهُ، تلاوتهُ درجاتٌ، وتدبّرهُ فُتوحاتٌ، وكُلُّ حرفٍ منه بعشرِ حسناتٍ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)

 

القرآنُ الكريمُ: أسماؤُه كثيرةٌ، ونُعوتهُ مُتعددةٌ، وصفاتهُ مُتنوعةٌ، فهو القرآنُ الكريمُ، وهو الكتابُ العزيزُ، وهو النورُ المبينُ، وهو الذكرُ الحكيمُ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). حمِدَ اللـهُ تعالى نفسَهُ على إنزالِه فقال(الْـحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا). وعظَّمَ ذاتَهُ العليَّةَ بإنزالِه فقال (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)

 ونوهَ على عظمتِه فقال(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْـمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) وأشادَ بعلو منزلتِه وشرفِه فقال(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) وبينَ أنهُ أحسنُ الحديثِ وأفضلُه فقال (اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّـهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).

أيَّها الصائمون:لقد كان صيامُ المصطفى r مُزدانًا بالإكثارِ من قراءةِ القرآنِ ومُدارستِه،

 فعن ابنِ عباسٍy قال: كانَ رَسولُ اللَّـهِ r أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدَ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّـهِ r حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ).خ.

قال أوسُ بنُ حذيفةَ: (أَبْطَأَ r علينا ذاتَ ليلَةٍ فأَطْوَلَ، فقُلْنا: يا رسولَ اللـهِ لقدْ أبطَأْتَ فقالَ: «إنهُ طَرَأَ علَيَّ حِزْبي مِنَ القُرآنِ فكَرِهْتُ أنْ أَخْرُجَ حتى أَقْضِيَهُ).

لقد أوضحَ r لأمته النهجَ الأمثلَ للانتفاعِ بالقرآنِ والاهتداءِ بهديِه؛ فبهما تتجلَّى بركتُهُ،

ويستبينُ سبيلُ العملِ به، فبيَّنَ ما للاشتغالِ بتلاوةِ هذا الكتابِ من بركةٍ تَغمُرُ من يتلوُه بالحسناتِ والأجر الضافِي، وترقَى به إلى المقاماتِ العاليةِ، وتُبلِّغُه المنازلَ الشريفةَ التي أعدَّها اللـهُ لأهلِهِ يومَ القيامةِ، وذلك في مثلِ قولِه r : خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ. خ.

وفي مثلِ قولِه «اقرأوا القرآَن؛ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه» م. وفي مثلِ قولِه r يُؤْتَى بالقُرْآنِ يَومَ القِيامَةِ وأَهْلِهِ الَّذِينَ كانُوا يَعْمَلُونَ به، تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ وآلُ عِمْرانَ تُحاجَّانِ عن صاحِبِهِما) م.

وسارَ الصحبُ الكرامُ والسلفُ الصالحُ على منوالِ الحبيب r مع كتابِ الله تلاوةً وحفظاً وتدبراً وعلماً وعملاً ، فعن أنسٍ قال : كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا- يعني: عظُمَ- وفي رواية: يُعَدُّ فينا عَظيمًا، وفي أخرى: عُدَّ فينا ذا شأنٍ) أحمد .

 وكان من سمتهم الديمومةُ منهم لتلاوة ِكتاب اللـهِ فكانوا يحزبونَ القرآنَ في سبعٍ وهذا في سائرِ أزمانِهم. قال شيخ الإسلام (إنَّ الْـمَسْنُونَ كانَ عندَهُم قراءَتُهُ في سَبْعٍ.. وهذا معلُومٌ بالتواتُرِ). أما إذا دخلَ رمضانُ فلهم شأنٌ آخرُ مع كتابِ اللـهِ،

 فعن السائبِ قال: (أمَرَ عمرُ بنُ الخطاب أُبيَّ بنَ كعبٍ وتميماً الداريَّ أن يقوما للناسِ بإحدى عشرةَ ركعةً، قال: وقد كان القارئُ يقرأُ بالـمِئينِ، حتى كُنَّا نعتمدُ على العَصيِّ من طُولِ القيام، وما كُنَّا ننصرفُ إلا في فُروعِ الفجرِ) مالكُ وغيرُه.

وها هو أميرُ المؤمنينَ عثمانُ بنُ عفانَ يُحيي الليلَ كُلَّه في ركعةٍ يقرأُ فيها القرآنُ، ويقولُ : لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكم ما شَبِعْتُم مِن كَلام اللَّـه عزّ وجَلّ ... كتاب الزهد لأحمد بن حنبل .

وكان الزهريُّ إذا دخلَ رمضانُ قال: «فإنَّما هو تلاوةُ القرآنِ وإطعامُ الطعامِ». وكان مالكٌ إذا دخلَ رمضانُ يَفِرُّ من قراءةِ الحديثِ ومُجالسةِ أهلِ العلمِ وأقبلَ على تلاوةِ القرآنِ من المصحفِ.

عباد الله: إنَّ على المسلمِ أن يستكثرَ من تلاوةِ القرآنِ وأن يأخذَ بحظِّهِ من تدبُّرِه وتفهُّمِ معانِيه؛ فالمُسلمُ يَتلقَّى القرآنَ بقلبٍ خاشعٍ خاضعٍ، ثمَّ يتفكَّرُ فيه وفي معانيِه ليستنبطَ منه ما ينفَعَه في الدُّنيا والآخرةِ (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُـهَا). والتدبرُ هو التأمُّلُ لفَهمِ معاني القرآنِ، والتوصلُ إلى معرفةِ مقاصدِ الآياتِ وأهدافِها، وما ترمي إليه من المعاني والحِكَمِ والأحكامِ؛ وذلك بقصدِ الانتفاعِ بما فيها من العلمِ والإيمانِ، والاهتداءِ بها والامتثالِ لِما تدعو إليه (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)

يقول ابنُ القيمِ: فلا شيءَ أنفعُ للقلبِ من قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّرِ والتَّفكُّرِ... فلو عَلِمَ الناسُ ما في قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّر، لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها ولو أن قارئَ القرآنِ إذا مرَّ بآيةٍ وهو محتاجٌ إليها في شفاءِ قلبِه، وعلاجِ دائِه، كررها ولو مائةَ مرةٍ ولو ليلةً كاملةً، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغيرِ تدبُّرٍ وتفهُّمٍ، وأنفعُ للقلبِ، وأدعى إلى حصولِ الإيمانِ وذَوْقِ حَلاوةِ القرآنِ... فقراءةُ القرآنِ بالتَّفكُّرِ هي أصلُ صَلاحِ القلب )

 ألا فاتقوا الله عبادَ اللـهِ وأكثروا من تلاوةِ كتابِ اللـهِ وتدبرِه والعملِ به (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) بارك الله...

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ..أما بعد:

فإنَّ أفضلَ ما يَعمُرُ به الصائمُ وقتَهُ هو تلاوةُ كتابِ ربِّه، وتدبرهِ ومدارستِه ومن تدَبَّرَ القُرآنَ دَلَّهً على كًلِّ خَيرٍ، وحَذَّرَهُ مِنْ كُلِّ شّرٍّ، وأبانَ لهُ الحلالَ والحرَامِ، وعَرَّفَهُ بأسمَاءِ رَبِّهِ الحُسْنَى، وصِفَاتِهِ العُلَى، وشَوَّقَهُ إلى ثَوابِهِ العَظِيمِ، وخَوَّفَهُ من عِقَابِهِ الألِيمِ.

 من تدبرَ القرآنَ فإنَّه سيتدارسُ آياتِ القرآنِ ويستلْهِمُ هداياتِه، ويتخلقُ بإرشَاداتِهِ وتَوجِيهَاتِهِ، فَيُحَقِقُ مُرادَ اللـهِ، وينَالُ مَرْضَاتِهِ ويفوزُ بجنتِه لأنه قرأَ بحضورِ قلبٍ وإعمالِ عقلٍ فعلِمَ وعَمِلَ.

عباد الله: إنَّ مما يُعينُ على تَدبُرِ القرآنِ الاطلاعَ على ما وردَ في تفسيرِ الآيةِ مما قالَه السلفُ الصالحُ وفهمُوه من معانِيها، وهذا أمرٌ في غايةِ الأهميةِ، بل هو لبُ الموضوعِ فلا تدبرَ صحيحٌ دونَ معرفةِ المعنى الصحيحِ.

فاتخذْ لك عبدَ اللـهِ تفسيراً كالمختصرِ في التفسيرِ تطالعُ فيهِ لتعرفَ معانيَ كلامِ اللـهِ ولتفهمَ عن اللـهِ، وأنتَ مأجورٌ على ذلك، فأجرُ تدبُرِ معاني القرآنِ أجرٌ زائدٌ على أجرِ التلاوةِ. عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ t قال: كُنَّا نتعلَّمُ من رسولِ اللـهِ r عَشْرَ آياتٍ، فما نعلَمُ العَشْرَ التي بعدَهنَّ؛ حتى نتعلَّمَ ما أُنزِلَ في هذه العَشْرِ منَ العَمَلِ.

ومما يعينُ على تدبرِ القرآنِ: استشعارُ عظمةِ القرآنِ، وأنَّه كلامُ اللـهِ وأنَّه يخاطبُك أَنتَ أَنتَ، يقول ابنُ مسعودٍ: إذا سمعتَ اللـهَ يقولُ (يا أيها الذين آمنوا) فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ ؛ فإنه خيرٌ يَأمركَ به، أو شرٌ ينهاكَ عنه.

ومما يعينُ على تدبرِ القرآنِ: القراءةُ بتأنٍّ وهدوءٍ، والتفاعلُ مع الآياتِ بحضورِ القلبِ، وإلقاءِ السمعِ، وإمعانِ النظرِ، وإعمالِ العقلِ ،ويظهرُ ذلكَ بالسؤالِ والتعوُّذِ والاستغفارِ ونحوِه، عندَ مناسبةِ ذلكَ كما جاءَ عنه r . إنَّ من أصغى إلى كلامِ اللـهِ وكلامِ رسولِه بعقلِه، وتدبَّرَهُ بقلبِه؛ وجدَ فيه من الفَهمِ والحلاوةِ والبركةِ والمنفَّعَةِ ما لا يجدْهُ في شيءٍ من الكلامِ لا منظومِه ولا منثورِه ، وصدق اللـهُ القائلُ (ولو كان من عندِ غيرِ اللـهِ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ).   ثم صلوا ..

 

 

 

المرفقات

1711013883_فضل القرآن الكريم تلاوة وتدبرا.docx

1711013883_فضل القرآن الكريم تلاوة وتدبرا.pdf

المشاهدات 887 | التعليقات 0