فضل العلم والعلماء

د. منصور الصقعوب
1443/06/15 - 2022/01/18 19:06PM

 

الخطبة الاولى             

الحمد لله الدائم بره، النافذ أمره، الغالبِ قهره، الواجب حمده وشكره، وهو الحكيم الخبير.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير، جلَّ ذكره، وإليه يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، لا رادّ لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه

أما بعد فاتقوا الله عباد الله فإن تقوى الله أعظمُ زادٍ يَقدُم به العبد على مولاه ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله...)

حين تظلم الأرض فهم نورها, وحين تُجدِب الديار فهم غيثها, وحين تعطش القلوب فهم روائها, فمن هؤلاء؟

إنهم الذين قرن الله اسمه باسمهم, وأعلى شأنهم, وجعل إجلاله من  إجلالهم.

إنهم العلماء, لهم المكانة العظمى والمنزلة الكبرى، فهم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل.

هم للناس شموسٌ ساطعة وكواكب لامعة، وللأمة مصابيح دجاها وأنوار هداها، بهم حُفِظ الدين وبه حفظوا، وبهم رُفِعت منارات المِلة وبها رُفِعُوا (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].

يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون به أهل العمى، ويهدون به من ضل إلى الهدى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائه قد هدوه، وهم أهل خشية الله )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]

وأمةٌ بلا علماء كجسد بلا روح، ومركبٍ بلا شراع؛ أمة بلا علماء كجيشٍ بلا قائد، ومقاتلٍ بلا سلاح .

أمة الإسلام: مَن مثل العلماء؟  يعيشُ الناس لأنفسهم وهم يعيشون لنفع الناس, أينما اتجهوا بلّغوا, وأينما حلّوا نفعوا, فهم أدلّاءُ لعبادِ الله على الله.

مَن مِثل العلماء؟ يسبِّحُ المرء لنفسه فحسب, وأما هم فتسبح لهم الطير في أوكارها والحيتان في قاع بحارها وتضع الملائكة لهم أجنحتها.

مَن مثل العلماء؟ يموت الناس بقبض أرواحهم, ويُحيى العلماء قروناً بعلمهم, تبقى أجورهم, ولا ينقطع نفعهم, بل ربما كانت أجورهم بعد موتهم أعظم, ويظل الناس حينها يذكرون مآثرهم, وينهلون من علمهم ويقولون في دروسهم ومساجدهم" قال رحمه الله تعالى".

إذا تمايز الناس بالفضائل, بزّ العلماءُ غيرهم, فمن يبلغ منزلة ورثة الأنبياء, وفضلُ العالمِ على العابد كفضل رسول اللهr على أدنى أمته, فما أبعد ما بين الأمرين.

ومهما استغنينا عن الناس, فإن أحداً لا يستطيع أن يستغني عن العلماء, فمن يستغني عن من يداوي قلبه ويغذّي روحه, قال الإمام أحمد رحمه الله: "الناس محتاجون إلى العلم أكثرَ من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلمُ يحتاج إليه بعدد الأنفاس".

وقال ابن القيم رحمه الله: "العلماء بالله وأمره هم حياة الوجود وروحه، ولا يُستغنى عنهم طرفةَ عين، فحاجةُ القلبِ إلى العلم ليستْ كالحاجة إلى التنفس في الهواء بل أعظم، وبالجملة فالعلم للقلب مثلُ الماء للسمك، إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها".

معشر الكرام: العلماء يبقى لهم القدر في القلوب والحبُّ في الضمائر, يتجلى ذلك عند رحيلهم, فحين يموت العلماء تنتفض الأرض وتدمع العيون, ويخرج الناس زرافاتٍ ووحداناً, ويظل الناس حينها يرددون ما قاله الإمام أحمد" بيننا وبينكم يوم الجنائز" " أنتم شهداء الله في أرضه", في حين قد يموت من أترابهم وربما لم يفقدهم أحمد

مـا الفخر إلا لأهـل العلم إنهـم على الهدى لِمن استهدى أدلاء

وقدر كـل امرئ ما كـان يحسنه   والجاهلون لأهـل العلم أعداء

ففز بعلم تعـش حيـاً بـه أبـداً      فالناس موتى وأهل العلم أحياء

ومهما حاول البعضُ النيل من العلماء, ولمزهم وتنقصهم, إلا أن الناس تُكِنُّ لعلمائها وصُلحائِها الحبَّ والوفاء, يتجلى ذلك في أوقاته, كم ذمّ البعضُ العلماء وخاض في أعراضهم, وحين يموتُ العالم تُشيّعه الجموع ويحزن لفقده الناس, ويموت بعض من يذمّ العلماء فيردد الناس حينها " أراح الله العباد منه, ومستراح منه".

معشر المسلمين: أنَّى للمدلجين في دياجير الظلمات أن يهتدوا إذا انطمست النجوم المضيئة, والعلماء هم الهداة.

قال الإمام الآجري $: "فما ظنكم بطريقٍ فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فقيّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت فئامٌ من الناس لا بُدَّ لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ أطفئت المصابيح فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟! فهكذا العلماء في الناس".

وإذا كان من علامات الساعة قبضُ العلم فإن ذلك القبض يكون برحيل ورثة الأنبياء, وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص yأن رسول اللهrقال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)).

وفي الصحيح أنه  rقال: ((تظهر الفتن، ويكثر الهرج، ويقبض العلم))، فسمعه عمر فأثره عن النبي r فقال: (إن قبض العلم ليس شيئًا يُنتزع من صدور الرجال، ولكنه فناء العلماء) ولقد أخبر ابن عباس ﭭ في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) [الرعد: 41] قال: (بموت علمائها وفقهائها)،

وقال ابن مسعود ﭬ: (عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضُه ذهاب أهله)، ولما مات زيد بن ثابت ﭬ قال ابن عباس ﭭ: "من سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه "، وقال ﭬ: "لا يزال عالم يموت وأثر للحق يَدرس حتى يكثُرَ أهلُ الجهل، ويذهبَ أهلُ العلم، فيعملُ الناسُ بالجهل، ويدينونَ بغير الحق، ويضلونَ عن سواء السبيل"

نعم عباد الله, فأي جمالٍ للدنيا إذا قلّ فيها علماؤها، وندر فيها عُبادها ؟! فمن يُبصِّر الناس بدينهم؟ ومن يدلهم إلى طريق ربهم ومعبودهم؟

ولكن, إن عزائنا حين يرحل بعض العلماء أن دينَ الله محفوظ، وشريعتَه باقية، وخيرَه يفيضُ ولا يغيض، فأعلام الديانة مرفوعة بحمد الله: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك } قاله ﷺ

العزاء للأمة أنها أمة ولود, فكم من عَلمٍ مات وظنّ الناس حينها أن العلم قد رحل, فيقيّضُ الله للأمة عوضاً عمن ذهب, وفي الأمة بقايا خير, ولا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة.

أيا شباب الإسلام: العلمَ فدونكم أبوابُه فانهلوا, ومجالَسه وحلقه فسابقوا, فمن أراد عزّ الدنيا وشرفها ومجد الآخرة ورفعتها فعليه بالعلم, ومن لم يصبر على مرّ التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته, ومن خدم المحابر خدمته المنابر, ومن آثر الراحة، فاتته الراحة, ولئن كنتم اليوم صغارَ قوم فأنتم غداً كبارُه, فصاحب الهمة من يقول أنا عوض الأمة فيمن يرحل من علمائها, وليس ذلك مجرد أماني بل كلام يتبعه همة وجدّ وتحصيل بلا تواني

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده

عباد الله: وإذا كان قدر العلماء عند الله جليلاً, فقمن أن يكون قدرُهم عند خلق الله كبيراً, فهم الموقِّعون عن رب العالمين, وإجلالهم من إجلال الله كما ورد بذلك الحديث

احترام العلماء وتقديرهم, والرجوع إليهم عند الاختلاف, سِمةُ الموفقين من عباد الله.

التماس الأعذار لهم عند الزلة, والذبُّ عن أعراضهم؛ مطلبٌ وحق لهم لاسيما حين تنطق الرويبضة ويتطاول السفهاء.

النصح لهم برفقٍ وأدبٍ, والتواصل معهم بحكمة لتذكيرهم بواجبهم, هو من النصيحة لهم.

حبهم والتقرب لله بذلك طاعة وقربة من القربات.

إحسان الظنِّ بهم, وعدمُ الدخول في نيّاتهم, أمرٌ لابد منه, ليبقى في القلوب قدرهم, وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي" من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب.." قال أبو حنيفة: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي, وقال ابن عباسt (من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله جل وعلا)

أيها الفضلاء: ألا يستحق منا العلماء الذين أمضوا في العلم أعمارهم وشابت عليه لحاهم وقضوا الأوقات دعوة وتعليماً أن ندعوا لهم بظهر الغيب, ألا يستحقون أن نتثبت قبل أن ننسب لهم أمراً, فكم من أمرٍ يتناقله العوام أو وسائل التواصل عن عالم أو داعية, وليس له من الصحة أساس, بل هو محض افتراء, ويظل البعض ينقله وربما لمز من نسب إليه ذلك, وما علم أن الغيبة تعظم حين تكون في العلماء, والافتراءَ يزداد شناعة حين يكون في هؤلاء.

وبعد معاشر المسلمين: فكم هم العلماء العاملون, والمصلحون الربانيون الذين هم بين أيدينا وفي ديارنا, فما بالنا نزهد في علمهم ومجالسهم, وهل ننتظر أن يأتيهم الموت ليقول البعض بأعلى الصوت يا حسرتا على الفوت؟ وللجميع أقول ما قال أبو الدرداء t:( كن عالماً، أو متعلماً، أو محباً، أو مستمعاً، ولا تكن الخامسة فتهلك )

 

 

المشاهدات 1820 | التعليقات 0