فضل العشر وليلة القدر
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
فضل العشر وليلة القدر
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الفضل والإنعام ، مازال يوالي على عباده في هذا الشهر المبارك فضائل الصيام والقيام ، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام ، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام ، وسلم تسليما كثيراً ، أما بعد : -
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وطاعته ، واغتنام شهر التقوى بتحصيل أعلى درجات التقوى ونيل أسمى مراتبها فإنها خير زاد ، قال تعالى : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب " .
عباد الله : من فضلِ الله سبحانه أن جعل في موسِمِ رمضان مواسِم ، ففضَّل العشرَ الأخيرة على سائر ليالي الشهر، وجعل ليلةَ القدر أفضلَ ليلةٍ في الشهر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخصُّ العشرَ الأواخر من رمضان بأعمالٍ لا يعملُها في بقيَّة الشهور لعلمه بفضلها وشرفها ، فمن فضائل هذه العشر أنها ختام الشهر والأعمال بالخواتيم فمن كان محسنٌ فيما مضى فليحسن في هذه الأيام لتكون خير ختام ومن كان مفرطاً أو مسيئاً فعليه بالتوبة قبل الفوات ، ومن فضائل هذه العشر المباركة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها من ليالي الشهر ، كان صلى الله عليه وسلم في أول الشهر يصلي وينام من الليل فإذا دخلت العشر المباركة أحيا ليلَه وذلك بطول التهجد والقيام ، وأيقظَ أهلَه ، وشدَّ المئزَر ، وجدَّ واجتهَد في طاعة الله ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : " كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ مِئْزَرَهُ وجَدَّ " ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . كِنَايَةٌ عَنِ الاِسْتِعْدَادِ لِلْعِبَادَةِ وَالْاِجْتِهَادِ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ . وَقَدْ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ وَتَرْكِ الْجِمَاعِ ، وَاغْتِنَامِ الْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ . يتحرَّى فيها ليلةً مُباركةً هي تاجُ الليالي ، بركاتُها عديدة وساعاتُها معدودة ، وكان السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم يقتدون به في ذلك فكانوا يخصوا هذه العشر بزيادة في قيام الليل ، كانوا يقومون أول الليل بالتراويح ثم يقومون آخره بالتهجد ويختمون تهجدهم بالوتر ، فيُستحبُّ للعبد الإكثارُ من الدعاء والصلاة وفعل الخير في العشر . قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه : " لكل شيءٍ ثمرة ، وثمرةُ الصلاة الدعاء " . فالأجورُ في رمضان مُضاعفَة ، وأبوابُ الجنة فيه مفتوحة ، وقُدومُه عبورٌ لا يقبلُ الفُتور ، وشهرُه قصيرٌ لا يحتملُ التقصير . فسابِق إلى الخيرات .
وَمِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْعَشْرِ وُجُودُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِيهَا ، وَهِيَ لَيْلَةٌ عَظِيمَةٌ ، أُنْزَلَ فِي شَأْنِهَا سُورَةً تُتْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَ تَعَالَى : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ . وَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِخَصَائِصَ : مِنْهَا أَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلاً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم . وَمن خصائصها َأنَّهَا خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ ، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا مُبَارَكَةٌ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3] . ويَكْثُرُ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِه اللَّيْلَةِ لِكِثْرَةِ بَرَكَتِهَا ، قَالَ تَعَالَى : ﴿ تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ ، وَالرُّوحُ : هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَدْ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ . وَهِيَ لَيْلَةٌ سَالِمَةٌ ، تَكْثُرُ فِيهَا السَّلَامَةُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ لما يَقُومُ به الْعِبَادُ مِنْ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ . يَغْفِرُ اللهُ تَعَالَى لِمَنْ قَامَهَا إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، قَالَ النَّبِيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَمَعْنَى : ( إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً ) أَيْ : تَصْدِيقاً بِوَعْدِ اللهِ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ ، وَطَلَباً لِلْأَجْرِ لَا لِقَصْدٍ آَخَرَ مِنْ رِيَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ . والْعِبَادَة فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً ، وَهَذَا فَضْلٌ عَظِيمٌ ، وَفِي هَذَا تَرْغِيبٌ لِلْمُسْلِمِ وَحَثٌّ لَهُ عَلَى قِيَامِهَا ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ ، فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ الجِدُّ وَالْاِجْتِهَادُ فِي عِبَادَةِ اللهِ ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ سَاعَاتِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فِي اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ ، أَوْ جَوْبِ الْأَسْوَاقِ ، فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَا يُدْرِكُهَا مَرةً أُخْرَى ، بِاخْتِطَافِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ ، وَمُفَرِّقِ الْجَمَاعَاتِ ، فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم أقول ما تسمَعون وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه ، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :-
فإنّ لَيْلَة الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأواخر ، وَفِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ آَكَدُ ، لِحَدِيث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوَتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . فيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَيَّامِ وَلَيَالِي هَذِهِ الْعَشْرِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَضَرُّعِ إِلَى الله لعله أن يوفّق لقيام ليلة القدر فيفوز بعظيم الأجر . قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : قُولِي : ( اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) رَوَاهُ التِّرمذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ . فينبغي على المسلم أن يستغل ليالي العشر كلها بالعبادة .
عباد الله : من الملاحظ عند دخول العشر كثرة الرُّؤى المنامية في تحديد ليلة القدر واعتماد بعض الناس وتصديقهم لهذه الرُّؤى ، فلا يهتم إلا بتلك الليلة دون غيرها من الليالي وهذا خطأ ، فديننا لايؤخذ من الرُّؤى المنامية وإنما يؤخذ من الأدلة الشرعية من الكتاب وصحيح السنة على فهم سلف الأمة . ومن الملاحظ أيضاً أن من الناس من يتحرى ليلة القدر فيعتمر فيها طلباً لزيادة الأجر ، وهذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو لم يحث على العمرة فيها ، فالمشروع أن يستغل المسلم هذه الليلة بالصلاة والقرآن والدعاء وليس بأداء العمرة .
عباد الله : وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ عَمَلُهَا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ ، الْاِعْتِكَافُ وهو لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَسُنَّ الْاِعْتِكَافِ فِيهَا لِزِيادَةِ فَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَنَةِ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ هَذِهِ الْعَشْرَ ، فعَنْ عَاِئَشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَاهُ اللهُ تَعَالَى ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . قال ابن بطَّال رحمه الله : " فهذا يدلُّ على أن الاعتِكافَ من السنن المُؤكَّدة لأنه مما واظَبَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي للمؤمنين الاقتداءُ في ذلك بنبيِّهم " . والمُعتكِفُ يعكفُ على طاعة الله ، ويُقيمُ عليها مُدَّة اعتِكافِه في أحبِّ البِقاع إلى الله " المساجد " ، ويُقيمُ فيها على الطاعة والعبادة ، والخضوع والخشوع والابتِهال ، فلا يكون همُّه و مقصودُه و مُرادُه إلا الله عز وجل ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ [البقرة: 187] ، وَلَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا لِحَاجَةٍ لَا بُدَّ مِنهَا .. ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه فقال : ( إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا ) اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانوا يعدِلون ، أبي بكرٍ ، وعُمر ، وعُثمان ، وعليٍّ ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ؛ وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين . اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذِلَّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين . اللهم من أرادنا أو أراد بلادَنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغِله في نفسِه ، واجعل كيدَه في نحرِه ، واكفنا شره يا قويُّ يا عزيز . اللهم تقبَّل منا صيامَنا وقيامَنا ، وأعتِقنا ووالدينا وجميع المسلمين من النار ، وأدخِلنا الجنةَ وأجرنا من النار ، اللهم أصلِح أحوال المسلمين حكاما ومحكومين في كل مكان يارب العالمين ، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والرباء والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يارب العالمين ، اللهم احفظ شبابنا وشاباتنا من الأفكار والحزبيات والجماعات المنحرفة ، اللهم اجعلهم بكتابك عاملين وبسنة نبيك متمسكين وعلى فهم السلف سائرين ، اللهم وفِّق ولاة أمرنا لما تحبُّ وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى . اللهم أعزهم بدينك وأعز بهم دينك ، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم ، اللهم سدّدهم في أقوالهم وأعمالهم وآرائهم ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا ، اللهم ثبّت قلوبهم وأقدامهم واشف مرضاهم وتقبل موتاهم ، . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات . ( ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذابَ النار ) . عباد الله : اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزِدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .
( خطبة الجمعة 21/9/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1742289326_.فضل العشر وليلة القدر.docx