فضل العشر الأواخر وليلة القدر

عبدالرحمن سليمان المصري
1446/09/20 - 2025/03/20 21:54PM

فضل العشر الأواخر وليلة القدر

الخطبة الأولى

الحمد لله المتفضل على عباده بمواسم الخيرات ، والمانِّ عليهم بعظيم الهبات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد :

أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾

عباد الله: ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام ، وما أعجل ما تتصرم الشهور والأعوام ، فبينما نحن قبلَ أيامٍ ، يُبَشِّرُ بعضنا بعضا بدخول هذا الشهر المبارك ، إذ تصرمت لياليه سراعا ، ومضت أيامه تباعا ، لقد مضى من رمضان صدره ، ثم انقضى منه شطره ، وبقي منه تاجه وسراجه العشر المباركة منه ، التي خصها الله عز وجل بالأجور الكثيرة ، والفضائل الوفيرة ، هي أفضل أيام الشهر ، ولياليه أفضل ليالي العام ،

 

عباد الله : في هذه العشر المباركة ؛ ليلة القدر ، ليلةٌ لا يساويها شيءٌ من ليالي الدهر ، هي خير من ألف شهر ، فالعبادة فيها أفضل وأعظم من عبادة ثلاث وثمانين سنة خلت منها ، شرفها الله على غيرها، وأنزل سورة من القرآن في شأنها ، ومنّ على هذه الأمة بجزيل إنعامها .

أنزل الله فيها القرآن العظيم ، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾القدر:1 ، وتقدر فيها المقادير ، بما هو كائن في تلك السنة ، من الآجال والأرزاق ، والسعادة والشقاء ، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ الدخان:4 .

 

ليلة كثرت خيراتها، وعمت بركاتها، تتنزل الملائكة فيها بالخيرات والرحمات ، ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم من كُلِّ أَمْرٍ﴾ القدر: 4 ، والملائكة في ‌تلك ‌الليلة ‌أكثر من ‌عدد ‌الحصى على الأرض ، إنها ليلة

سلام لأهل الإيمان ، يسلمون فيها من كل مخوف ؛ لكثرة من يعتق الله فيها من النار ، ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ القدر: 6.

عباد الله : وقد أخفى الله سبحانه علمها عن العباد رحمة بهم ؛ ليكثر عملهم في طلبها ، فيزدادوا قربة من الله وثوابا، ومن حرص على شيء جدّ في طلبه ، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه.

 

وقد كان النبي ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها ، فكان يخلط العشرين الأولى من رمضان بصلاة ونوم ،  فإذا دخلت العشر الأواخر ؛ شمّر وشدّ المئزر ، وأحيا ليله وأيقظ أهله .

 

وكان صلى الله عليه وسلم  يعتكف العشر الأواخر من رمضان في المسجد ؛ ليتفرّغ لطاعة الله ، وطلبا لفضله وثوابه ، وإدراك ليلة القدر ، ومن عجز عن الاعتكاف فينبغي له عند دخول المسجد أن ينوي الاعتكاف فترة بقائه في المسجد ، قال النووي : وينبغي للجالس في المسجد أن ينوي الاعتكاف ، فإنه يصحّ اعتكافه عندنا ولو لم يمكث إلا لحظة. أ.هـ. وبه أفتى الشيخ ابن باز رحمه الله .

 

عباد الله : فهذه الليالي العشر ؛ هي ليالي التهجد وطول القيام وإحياء الليل ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قَامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه" رواه البخاري.

 قال الشيخ صالح الفوزن حفظه الله: وليس شرطا أن يحي الليل كله فلا ينام، بل يصلي أول الليل التراويح في المسجد ، ثم ينام ويأخذ راحته ثم يقوم في آخر الليل ، ليصلي مع المسلمين ، ليحظى بفضل قيام هذه الليالي المباركة . أ.هـ.

 

عباد الله : وليلة القدر اختلف العلماء في تعيينها ، والراجح أنها تنتقل ولا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام ، وكل ليالي العشر قد تكون محلا لها ، الأشفاع والأوتار ، فمن اجتهد في جميع ليالي العشر بالقيام والخشوع بين يدي الله تعالى ؛ فقد أدرك ليلة القدر ، وفي كل ليلة لله عتقاء من النار .

 

عباد الله : وعلامة ليلة القدر :هدوء الليلة فلا برد فيها ولا حرّ ، وبياض السماء بياضا بيّنا ، كأنّ فيها قمرا ساطعا ، وفي صبيحتها تطلع الشمس صافيةً ليس لها شعاع . قال صلى الله عليه وسلم : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‌لَيْلَةٌ ‌بَلْجَةٌ سَمْحَةٌ ، تَطْلُعُ شَمْسُهَا لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ " رواه الطبراني وصححه الألباني . ومنها: شعور المؤمن بالراحة والاطمئنان ، وانشراح صدره للذكر والدّعاء ، وحضور القلب في القيام ، وهذا يشهد له الواقع ، قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

عباد الله : وليحذر المؤمن من العُجب والغرور من أعماله وقرباته ، فإنّ ذلك يُحبط العمل ، فكلّ عمل من أعمال الخير إنما هو بتوفيق من الله عز وجل ، وليجمع المؤمن في عمله بين الخوف والرجاء ، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ الأنبياء :90 .

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.         

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا .        أما بعد :

 

عباد الله : تبيّنوا شرف زمانكم ، واعلموا أن رمضان أياما معدودات ، فأقبلوا على الله فيها بحسن النية والعمل ، وصُونوا أنفسكم عن الحرام ، واحفظوا جوارحكم من الآثام ، وأحيوا هذه الليالي بالقربات وتلاوة القرآن ، والمحافظة على التراويح والقيام ، وأكثروا الدّعاء والاستغفار ، فإن ربكم كريم منان .

 

فكم لله فيها من نادم تائب قبلت توبته ، وداع مستغيث أجيبت دعوته، وكم فيها من خائف من ذنوبه فأُعتقت رقبته ، والمغبون فيها من انصرف عن طاعة الله ، والمحروم من حرم رحمة الله ، وإنه لمن الحرمان العظيم الانشغال بمضيّعات الأوقات ، فكيف بمن عمر لياليه بالمعاصي والسيئات .

 

عباد الله : واعلموا أن الدعاء عبادة عظيمة ، وقربة من أجلّ القربات ، فالدّعاء هو العبادة ، ومن لا يدعوا ربّه يغضب عليه ، وليس شيء أكرم على الله تعالى من الدّعاء ، ولا يردّ القدر إلا الدعاء ، فارفعوا إلى الله حاجات ألمت بكم ، وتضرعوا إليه في هذه الليالي المباركات فإنكم في شهر الإجابة ، وقد سألتْ أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضي الله عنها ، النبيَ صلى الله عليه وسلم : أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا ، قَالَ: " قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ ‌عُفُوٌّ ‌تُحِبُّ ‌الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي "رواه الترمذي بسند صحيح .

عباد الله : وقد ختم الله آيات الصيام بالحثّ على الدعاء ، ليبينّ لعباده مكانة الدعاء وعلوا شأنه خاصة في رمضان ، ومن يكثر قرع الباب يوشك أنْ يفتح له ، ومنْ يكثر الدّعاء يوشك أنْ يستجاب له ، ومن سرّه  أنْ يستجيب الله له حال الشّدة ؛ فليكثر من الدعاء حال الرخاء ، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾البقرة:186 .

يا من يَرى ما في الضمير ويسمَعُ ..... أنت المُعّدُّ لكل ما يُتوقَّع

    يا من يُرجَّى للشدائِد كلَّها   .....       يا مَن إليه المُشتكَى والمَفزَع

يا من خزائنُ رِزْقه في قولِ كُن ..... امنُنْ فإن الخيرَ عندك أَجمع

ما لي سِوَى فقرِي إليك وسيلةٌ ..... فبالافتقارِ إليك فَقْرِي أدفع

ما لي سوى قَرْعِي لبابِك حِيلةٌ ..... فلئنْ رَدَدْتَ فأيَّ بابٍ أقرع

   ومَن الذي أدعُو وأهْتِف باسمه ..... إن كان فَضْلُكَ عن فقيرٍ يُمنع

إِن كانَ لا يرٍجوك إلا محسن ..... فالمذنٍبُ العاصى إلى مَن يرجع

حاشا لجودك أن تُقنّط عاصياً ..... الفَضْلُ أجزلُ والمَواهبُ أوسع

اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا ، واجعلنا ممن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، واعتق رقابنا من النار ، نحن ووالدينا وأهلينا وجميع المسلمين .

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

المرفقات

1742496839_فضل العشر الأواخر وليلة القدر خطبة2.docx

1742496839_فضل العشر الأواخر وليلة القدر خطبة2.pdf

المشاهدات 4774 | التعليقات 0