فَضْلُ الْعَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رمضَان ومَا يُشْرَعُ فِيهَا.
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ العزيزِ العليمِ، فاطرِ السمواتِ والأراضين، صَوّرَ الإنسانَ وَخَلَقَهُ في أحسنِ تقويمٍ، وَفَطَرَهُ على التوحيدِ، وَجَعَلَهُ من المكرَّمين، وهَدَى من شاءَ بفضلِهِ إلى صراطِهِ المستقيمِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُهُ، المبعوث رحمةً وهدايةً للعالمين، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا إِلى يومِ الدِّينِ، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: إنَّ المسلمَ مأمورٌ في كلِّ آنٍ وعلى كلِّ حالٍ بالتزَوُّدِ منَ الطَّاعَاتِ والإكثَارِ منَ الْقُرُبَاتِ، والإقبالِ على بارئِ الأرضِ والسَّمَاوَاتِ، قالَ تعالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}البقرة: [197] ويتأكَّدُ الأمرُ في مواسِمِ الغفرانِ ومواطِنِ الإحْسَانِ، وأعظمها وأهمها العشر الأواخرِ من رمضان.
أيُّهَا الصَّائِمُونَ: هَا هِيَ ليالِي العشر الأواخِرِ مِن رمضان قَدِ انْفَرَطَ عِقْدُهَا وانْقَضَى بَعْضُهَا، وهذهِ اللَّيَالِي هي قُرَّةُ عيونِ العَابِدِينَ، ومُلْتَقَى الْعَاكِفِينَ الرَّاكِعِينَ، ومَحَطُّ الْمُخْبِتِينَ ومَأْوَى الْمُجْتَهِدِينَ، تُسْكَبُ فيهَا الْعَبَرَاتُ، وتُقَالُ فِيهَا الْعَثَرَاتُ، فَدُونَكُمْ مَا بَقِيَ مِنْهَا، عَضُّوا عليهِ بالنَّوَاجِذِ.
أيُّهَا المؤمنونَ: كانَ النبيُّ ﷺ يجتهدُ في هذه العشر مَا لا يجتهدُ في غيرِهَا تقولُ عائشةُ رضي اللهُ عنهَا: (كانَ النبيُّ ﷺ إذا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيا لَيْلَهُ وأَيْقَظَ أهْلَهُ) أخرجه البخاري (٢٠٢٤) وذلكَ لما أَوْدَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ في هذِهِ العَشْر مِنَ الْفَضْلِ، واخْتِصَاصها بليلةِ الْقَدْرِ، ليْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، أَمَرَ النبيُّ ﷺ بتحَرِّيهَا بقولِهِ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ) رواه البخاري(2017) مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فهُوَ المحرومُ، ومَنْ نَامَ عَنْهَا فهُوَ المغبُونُ.
عِبَادَ اللهِ: وممَّا وردَ في فضلِ ليلةِ القَدْرِ، قولُهُ تعالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان: [3-4]، وقولُ النبيِّ ﷺ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه البخاري (35)، ومسلم (760) تقولُ عائشةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيتَ إن وافقتُ ليلةَ القدرِ ما أدعو؟ قالَ تقولينَ: (اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي)رواه ابن ماجه (3850)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3119).
عِبَادَ اللهِ: ومما يجدرُ التنبيهُ عليهِ أنَّهُ لا يَسُوغُ للرَّجُلِ أنْ يَعْتَكِفَ ويُهْمِلَ أَهْلَهُ وبَيْتَهُ، أَوْ يُقَصِّرَ في عَمَلِهِ، ولا بأسَ باعتكافِ بعض أيامِ العشرِ، وخاصَّةً ليالي الوِتْر، ولا يسوغُ للمرأةِ أَنْ تعتكفَ في مُصَلَّى بيتِهَا؛ لأنَّ الاعتكافَ لا يكونُ إلا بالمساجِدِ فإنْ عزمَتْ على الإعتكافِ في المسجدِ فلا بُدَّ من إِذْنِ زوجِهَا أو وَلِيِّهَا ولا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الْفِتْنَةِ.
أيُّهَا الصَّائِمُونَ: شمِّرُوا عن سَاعِدِ الْجِدِّ، وأَحْسِنُوا الْخِتَامَ كَمَا أَحْسَنْتُم الاستِقْبَال، ألم تروا أن الخيلَ إذَا شَارَفَتْ نِهَايَةَ المِضْمَارِ بَذَلَتْ قُصَارَى جَهْدِهَا لِتَفُوزَ بِالسِّبَاقِ، فَزَيِّنُوا نَهَارَكُمْ بالصِّيَامِ، ولَيْلَكُمْ بالقِيَامِ، وتَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ ليالِي شَهْرِكُمْ، وأَيْقِظُوا لهَا نِسَاءَكُمْ وأَبْنَاءَكُمْ.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} القدر (1-5).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وليُّ الصَّالِحِيِنَ، ومَوْلَى المؤمنينَ، يُحِبُّ من عبادِهِ المتّقينَ، وَسِعَ برحمَتِهِ العالمينَ، امْتَنَّ على عِبَادِهِ بمواسِمِ الْخَيْرَاتِ، وتفَضَّلَ عليهِمْ بالمِنَحِ والعَطَايَا والهِبَاتِ، وأُصَلِّى وأُسَلِّمُ على محمدٍ بن عبداللهِ، خَتَمَ اللهُ بِهِ الرِّسَالاتِ، وأيَّدَهُ بالمعجِزَاتِ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعلى آلهِ وصَحْبِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ: واعْلمُوا أنَّ زكاةَ الْفِطْرِ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ، وشَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ شَرَعَهَا النَّبِيُّ ﷺ طُهْرَةً للصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وَطُعْمَةً للمساكِين وجَبْرًا لما يعتري الصومَ مِنَ الْقُصُورِ، وشُكْرًا للهِ عزَّ وجلَّ على تَمَامِ الشَّهْرِ، تَجِبُ على الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ، والذَّكَرِ والْأُنْثَى، بغروبِ شمسِ ليلة العيدِ، ووقتُ إِخْرَاجهَا قَبْلَ صلاةِ العِيدِ، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهي صَاعٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، ولا تُجْزِئُ نَقْدًا، قالَ ﷺ: (فمَن أدَّاها قبل الصَّلاةِ؛ فهي زكاةٌ مقبولةٌ ومَن أدَّاها بعد الصَّلاةِ؛ فهي صدقةٌ مِنَ الصَّدَقاتِ) رواه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1492)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1609)، فبَادِرُوا بِإِخْرَاجِهَا في وَقْتِهَا، وإيصَالِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا، وطِيبُوا بهَا نَفْسًا، واسْأَلُوا اللهَ بِهَا أَجْرًا، قالَ تعالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} الأعلى: [14-15]
واعْلَمُوا -رعاكم اللهُ- أنَّهُ يجُوزُ توكيلُ الجمعيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ والمِنَصَّاتِ الرَّسْمِيَّةِ في إِخْرَاجِ زكاةِ الْفِطْرِ، وإِيصَالها لمستَحِقِّيهَا، وتَبْرَأُ الذِّمَّةُ بذَلِكَ.
أَسْألُ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ وَأَنْ يُوَفِّقْنَا لاغُتِنَامِ لَيْلَة الْقَدْرِ وأَنْ يَجْعَلَنَا فِيهَا مِنَ الْمَقْبُولِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وحُبَّ المسَاكِينِ.
اللَّهُمَّ أمِّنَا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أمُورِنا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عَامَّةً لِلْحُكْمِ بكتابِكَ والْعَمَلِ بِسُنَّةِ نبيِّكَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وسُمُوَّ وَلِيِّ عَهْدِهِ لِكُلِّ خَيْرٍ، واصْرِفْ عَنْهُمَا كُلَّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُمْ وأَعْوَانَهُم ووُزَرَاءهُمْ لما فِيهِ خَيْرُ الْبِلادِ والْعِبَادِ، ولمَا فِيهِ عِزُّ الإسْلامِ وَصَلاحُ المسْلِمِينَ.
اللهم سدد ووفق وأعن رجال الأمن في بلادنا لكل خير واصرف عنهم كل شر
اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تٌحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، اللَّهُمَّ أَعْتِقَ رِقَابَنَا وَرِقَابَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وأَزْوَاجنا وذرياتنا من النَّارِ، اللَّهُمَّ اشْمَلْنَا بِعَفْوِكَ، وخُصَّنَا بمزيدِ فَضْلِكَ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ خَشْيَتكَ في الغيبِ والشَّهَادَةِ، ومُرَاقَبَتكَ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الجمعَ مِن المؤمِنِينَ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّهُمْ، وَنَفِّس كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ دِيُونَهُم وَاشْفِ مَرْضَاهُم، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، واغْفِرْ لَهُم ولآبَائِهِم وأُمَّهَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَوَالِدِينَا وَأَزْوَاجنا وذُرِّيَّاتِنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب:[56].
الجمعة: 23 / 9 / 1444هـ