فضل الصدقة في رمضان
تركي المطيري
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ الَّذِي يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ، وَيُخْلِفُ عَلَى الْمُنْفِقِينَ، وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، إِلَهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَقُدْوَةً لِلْعَامِلِينَ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّــا بَعْـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-؛ فالتقوى غَنِيْمَةٌ وسَلْوَى، وقُرْبَةٌ وزُلْفَى، ونَجَاةٌ مِنَ الْبَلْوَى، قالَ تعالَى-: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى).
أيها المؤمنون: إنَّ شَهرَ رمضانَ طُهْرَةً للمسْلِمِ، يُحْكِمُ شهوتُهُ بالصِّيَامِ، ويَهْجُرُ نومهُ بالقِيَامِ، ويُعَالِجُ أَدْرَانَ الْقَلْبِ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ، ويَتَخَلَّصُ مِنْ آفَةِ الشُّحِّ والبُخْلِ بالصَّدَقَةِ والْبَذْلِ والإِحْسَانِ، قالَ تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
يَجْتَهِدُ المُسْلِمُ في بَذْلِ النَّفَقَةِ والصَّدَقَةِ والإِحْسَانِ، يَطْرُقُ في طَلَبِ الثَّوابِ كُلَّ باب، ويَسْلُكُ في طَلَبِ الأجرِ كُلَّ طَرِيْق، يَتَفَقَّدُ قَرابَتَهُ وجِيرانَه، وخَدَمَهُ وعُمَّالَه، يَتَحَسَّسُ حَواِئجَهُم، ويتَلَمَّسُ ضَوائِقَهُم، فَيُعِينُ فَقِيْرَهُم، ويَسْنُدُ ضَعِيْفَهُم، لِيَكُونَ عَيْشُهُم كَفَافًا، ولا يحتاجونَ إلى النِّاسِ.
يَجْتَهِدُ المُسْلِمُ على تَفَقُّدِ أَحْوَالِ الفقراءِ والمساكِين، والمَدِيْنِيْنَ والغارِمِين، يُنَفِّسُ كُرْبَةً، ويُفَرِّجُ ضائقَةً، ويَقْضِيْ ديناً، ويتجاوزُ عَن مُعْسِرْ.
أيها المؤمنون: كَانَ مِنْ هَدْيِ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الإِكْثَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ في رَمَضَانَ، وَكَانَ يُكْثِرُ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالإحْسَانِ وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّلاةِ وَالذِّكْرِ وَالاعْتِكَافِ، وَكَانَ يَخُصُّ رَمَضَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ بِمَا لا يَخُصُّ غَيْرَهُ بِهِ مِنَ الشُّهُورِ.
قال ابن القيم: (كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ النَّاسِ صَدَقَةً بِمَا مَلَكَتْ يَدُهُ، وَكَانَ لَا يَسْتَكْثِرُ شَيْئًا أَعْطَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَسْتَقِلُّهُ، وَكَانَ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إِلَّا أَعْطَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَكَانَ عَطَاؤُهُ عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ، وَكَانَ الْعَطَاءُ وَالصَّدَقَةُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ سُرُورُهُ وَفَرَحُهُ بِمَا يُعْطِيهِ أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِ الْآخِذِ بِمَا يَأْخُذُهُ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، يَمِينُهُ كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.)
أيُّهَا المؤمنُونَ: الصدقةُ تَطِيبُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وتجزئُ في كلِّ حالٍ وآنٍ، إلا أنَّهَا في الأزْمِنَةِ المباركَةِ أفضلُ مِنْ غَيْرِهَا، ورمضانُ من الأزمنةِ التي يتضاعفُ فيها أجرُ الصَّدقَةِ، مُرَاعَاةً لحاجَةِ الفقيرِ، وتأسِّيًا بالنبيِّ -ﷺ-، قال ابنُ عباسٍ -رضي اللهُ عنهمَا-: ")كانَ النبيُّ -ﷺ- أجْوَدَ النّاسِ، وأَجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ")، وكمَا خَصَّ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الصَّائِمينَ ببابٍ في الجنَّةِ لا يدخلُ منهُ سواهُم، فقدْ خصَّ المتصدقِّينَ أيضًا، قالَ ﷺ: "ومَن كانَ مِن أهلِ الصيامِ دُعِيَ مِن بابِ الريانِ، ومَن كان مِن أهلِ الصدَقَةِ دُعِيَ مِن بابِ الصدَقَةِ".
فَطِبْ نَفْساً بما أَنْفَقْتَ، واهْنَأ بِما بَذَلْتَ، واْنشَرِحْ بِما قَدَّمتَ، فَنَفَقَتُكَ -بإِذنِ اللهِ- لَنْ تَضِيْعَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُمْ بِما فِيهِ منِ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، إِنِّه تَعَالى جَوادٌ كَرِيْمٌ، ملك برٌّ رءوفٌ رَحِيمٌ، فاسْتَغْفِروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى جنته وَرِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وملائكتهُ والصالحون من خلقهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَعْوَانِهِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتُّقُوا اَللَّهَ -عِبَادَ اَللَّهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِذَا حُشِرَ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاشْتَدَّ الكَرْبُ، وَدَنَتِ الشَّمْسُ مِنْ رُؤوسِ الخَلَائِقِ، فَإِنَّ الـمُتَصَدِّقِينَ يَتَفَيَّؤونَ ظِلَّ صَدَقَاتِهِمْ؛ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وَذَكَرَ مِنْهُمْ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ». واعلموا إنّ مَنْ جَادَ بِمَا فِي يديِهِ قَلِيلًا كَانَ أَمْ كَثِيرًا؛ جَازَاهُ الله بقدرِ ما أعطى، وَنَمَّا لَهُ الْقَلِيلَ حَتَّى يُصْبِحَ كَالجَبَلِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»: مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ».
أَسْأَلُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- أَنْ يُعِينَنَا فيهِ على الصِّيَامِ والقِيَامِ والصَّدَقَةِ والإِحْسَانِ، وأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ، وأنْ يَرْزُقَنَا إِخْلاصَ النِّيَّةِ، وَعُلُوّ الْهِمَّةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وحُبَّ المسَاكِينِ، وأَنْ تَحْفَظَنَا مِنْ مُضِلَاّت الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّيِّبِينَ وَصَحَابَتِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ وَتَابِعِيَّهِمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ وَالمُسلمينَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطْمَئنَاً وَسَائرَ بِلادِ المُسلمينَ.اللَّهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرَمينَ الشَريفينَ، وَوليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ، لَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا بَلَاءٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ. عِبَادَ اللَّهِ: اذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللَّهُ يَعلَمُ ما تَصْنَعُوْنَ.
المرفقات
1741863277_فضل الصدقة في رمضان 1.docx
1741863278_فضل الصــــدقة في رمضان.pdf