فضل الصحابة رضوان الله عليهم

محمد المطري
1446/02/21 - 2024/08/25 20:34PM

فضل الصحابة  

الحمد لله وليِّ الصالحين، وهادي المؤمنين، يخلق ما يشاء ويختار، ويُفضِّل مَن شاء على مَن شاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أعلم بمن اتقى، وهو خيرٌ وأبقى، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسولُه، من أطاعه اهتدى، ومن عصاه ضل وغوى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اتَّبعوا سنته، وأقاموا دينه، وجاهدوا أعداءه، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وعلى كل مَنِ اتبعَ الهدى.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 - 20].

 أما بعد:

فإنَّ خير الكلام كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.

أيها المسلمون، اعلموا أن الله ذكر في القرآن العظيم آياتٍ كثيرةٍ جدًا في فضائل أصحابِ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد جمعها بعضُ الباحثين فبلغت مائة آية لا تخفى على المتدبرين، فكل من يتدبر القرآن الكريم يعلم يقينًا فضل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فمِن الآياتِ التي تبين فضلَهم وشرفَهم قولُه تعالى:

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، فقد ذكر الله فضلَ الصحابةِ في التوراة والإنجيل قبل أن يخلقهم، فذكر مَثَلَهُم في التوراة وفي الإنجيل قبل أن ينزل القرآن، وكفى بذلك شرفًا للصحابة وفضلًا، ووعدهم الله بالمغفرة لذنوبهم، والأجرِ العظيم لحسناتهم، والله أعلم بما في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والتقوى، قال الله عنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]، وقال سبحانه: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26].

وقال الله تبارك وتعالى مخاطبًا الصحابة الكرام: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 7 - 10]، أخبر الله في هذه الآيات أنه حبَّب إلى الصحابةِ الإيمان، وزينه في قلوبهم، وأنه كرَّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيان، وشهِد لهم أنهم الراشدون، وذلك من فضل الله عليهم، وكفى بهذه تزكيةٌ من الله لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهم خيرُ أمةٍ أخرجت للناس، وأخبر الله في هذه الآيات أن المؤمنين قد يحصل بينهم اقتتالٌ وبغيٌ من بعضهم، حتى لو كانوا من الصحابة، فهم غير معصومين، فأمر الله بالإصلاح بينهم، وأخبر أنهم إخوة وإن حصل بينهم قتالٌ وفتن.

أيها المسلمون، قد أخبر الله برضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، وعن الذين يتبعونهم بإحسان، ووعدهم جميعًا بالجنة خالدين فيها أبدًا، ومَن أصدقُ مِن الله قيلًا؟! قال الله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

أيها المسلمون، وصف الله المهاجرين بأنهم الصادقون، ووصف الأنصار بالإيمان والفلاح، وأمر من جاء بعدهم أن يستغفر لهم ذنوبهم، قال الله سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]، فشهد الله في هذه الآيات أن الصحابة المهاجرين هم الصادقون، وأثنى على الأنصار بالإيمان، وشهد أنهم هم المفلحون، وأمر من جاء بعد الصحابة بالاستغفار لهم، فالصحابة بشرٌ غير معصومين، فلا يجوز أن نطعن فيهم، ولا نذكر سيئاتهم، ولا يجوز أن يكون في قلب المؤمن غلٌّ لبعضهم.

أيها المسلمون، في هذه الآيات الكريمة ردٌّ بليغٌ على كل من يتهم الصحابةَ بالردة أو النفاق، فلو علم الله ردتهم أو نفاقهم لما أثنى عليهم بهذه الآيات الكريمة، وكيف يخبرنا الله برضاه عنهم وبأنه أعد لهم الجنة ثم يكونون من أهل النار؟!

قال الله عن الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية تحت الشجرة وكانوا ألفًا وأربع مائة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، وفي الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النارَ أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة)).

أيها المسلمون، الصحابةُ هم تربية الرسول، والطعنُ فيهم طعنٌ في الذي علَّمهم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4].

ويا عجبًا ممن يسيءُ الظنَّ بأصحاب الرسول وهم الذين نقلوا لنا القرآن والسنة، ونقلوا لنا أخبار النبي وسيرتَه، ونشروا دينَ الإسلام، وفتحوا الأمصار، وحكموا بين الناس بشرع الله، وقد نقل لنا التابعون أقوال الصحابةِ وفتاويهم وسِيَرهِم، فكانوا كما أخبر الله عنهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]، وكانوا كما وصفهم الله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].

فالصحابة الكرام أفضل الأمة، وخير أهل الجنة، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 10 - 14]، فأخبر الله أن السابقين جماعةٌ كثيرةٌ من الأولين، وقليلٌ من الآخرين، وكيف لا يكون الصحابةُ أفضلَ الأمة عِلمًا وعملًا والنبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يُزكِّيهم ويُربيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؟!

أيها المسلمون، الصحابة جاهدوا الكفار مع الرسول، ثم جاهدوا الكفار بعد موت الرسول، وتحقق ما وعدهم الله بعد صلح الحديبية من نصر الله لهم على كل من يقاتلهم، قال الله سبحانه مخاطبًا أصحاب نبيه الذين رضي عنهم: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الفتح: 22]، فلم يقف أمامهم أحدٌ من الكفار بعد نزول هذه الآية الكريمة، بل نصرهم الله على جميع المشركين واليهود والنصارى والمجوس، ونصرهم على المرتدين، ودانت لهم الجزيرة العربية، وفتحوا فارس والشام ومصر وشمال أفريقيا، وهذا الأمر من معجزات القرآن حيث أخبر الله بنصر الصحابة على جميع الكفار، وتمكينهم في الأرض، فوقع ذلك كما أخبر الله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

أيها المسلمون، قد أخبر الله عن الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله في المسير معه إلى مكة عام الحديبية أنهم سيُدعون إلى قتالِ قوم ٍكفارٍ أشداء في الحرب، فوقع ذلك حين دعاهم الخلفاءُ الراشدون إلى حروب الردة، ودَعَوهم إلى قتال فارس والروم، قال الله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16].

فمن الذي دعا المسلمين إلى الجهاد بعد موت الرسول غيرُ الخلفاء الراشدين؟!

وقد توعد الله في هذه الآية الكريمة الأعراب إذا لم يجيبوا الخلفاء إلى الجهاد بالعذاب الأليم، فقال: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]، فدلت هذه الآيات دلالةً واضحةً على صحةِ خلافةِ الخلفاء الراشدين؛ لأن الله أوجب على المسلمين طاعتهم، فهم أئمةٌ للمسلمين بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال المفسرون كالجصاص والقرطبي: هذه الآية دليلٌ على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ لأن أبا بكر الصديق دعاهم إلى قتال المرتدين أصحاب مسيلمةِ الكذاب، ودعاهم عمر ثم عثمان إلى قتال فارس والروم، وقد ألزمهم الله طاعة من يدعوهم إلى قتال الكفار بقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16].

وقال الله سبحانه في آخر سورة طويلة أنزلها على رسوله، وهي سورة التوبة: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وكان ذلك في غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، قبل موتِ النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وثبت في السيرة النبوية أن الصحابة كانوا في غزوة تبوك عدة آلاف، قيل: كانوا ثلاثين ألفًا، فأخبر الله الرحيم أنه تاب عليهم، فهنيئًا لهم هذا الفضل العظيم.

اللهم تب علينا واهدنا يا رؤوف يا رحيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.


 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي يهدي من يشاء، ويتوب على من يشاء، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفق مثلَ جبلِ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه))، فالصحابة أكثر الناس أجرًا، وما مِن عملٍ صالحٍ نقوم به إلا شركونا في الأجر؛ لأنهم الذين نقلوا لنا القرآن والسنة، وأقاموا الدين ونشروه، وعلَّموا العلم من جاء بعدهم، فحسناتُهم مضاعفة، وذنوبُهم مغفورة، فجزاهم الله عنا خير الجزاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

أيها المسلمون، وعد الله جميع الصحابة بالجنة، سواء السابقين منهم أو المتأخرين من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة، قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].

أيها المسلمون، دل القرآنُ على براءة كلِّ من صحب النبيِّ في حجة الوداع من النفاق، قال الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83].

قال المفسرون: أي: فإن أرجعك الله - يا نبي الله - بعد غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين فاستأذنوك للخروج معك للجهاد فقل لهم عقوبةً لهم: لن تصحبوني في أي سفر للجهاد أو النُسُك أبدًا، ولن تقاتلوا معي عدوًا من الأعداء أبدًا.

ويُستنبط من هذه الآية: أن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فهو بريء من النفاق، فإن الله أمر رسوله أن يخبر المنافقين بعدم تشرفهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من غزوة تبوك في أي سفر من أسفاره أبدًا، وقد نزلت هذه الآية من سورة التوبة بعد غزوة تبوك سنة 9 للهجرة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من الهجرة قبل موته بثلاثة أشهر، وخرج معه عشرات الآلاف من أصحابه الكرام، وكلهم بريء من النفاق بشهادة هذه الآية الكريمة؛ فإن الله أخبر أنه قضى وقدَّر أن المنافقين لن يخرجوا مع رسوله أبدًا في أي سفر من أسفاره بعد رجوعه من غزوة تبوك، سواء سفرَ جهادٍ أو سفرَ حج، فأمر الله نبيه أن يقول للمنافقين: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}، فكلُّ من صحب النبي في سفره بعد نزول هذه الآية فهو بريء من النفاق، وقد قيل: إن الذين حجوا مع الرسول في حجة الوداع نحو مائة ألف أو يزيدون، فكل من يتهمُ أصحابَ النبي بالنفاق مع صحبتهم له في سفره في حجة الوداع فهو مكذِّبٌ بالقرآن الكريم، غافلٌ عن هداياته.

قال ابن تيمية: "ينبغي أن يُعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين، وأكثرَهم انكشف حالُه لـمَّا نزل فيهم القرآنُ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلًا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه، والعلمُ بكون الرجل مؤمنًا في الباطن، أو يهوديًا، أو نصرانيًا، أو مشركًا أمرٌ لا يخفى مع طول المباشرة، فإنه ما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلا أظهرها الله على صفحات وجهِه، وفلَتاتِ لسانه، وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]، وقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَولِ} [محمد: 30]، فالمضمِر للكفرِ لا بد أن يُعرف في لحْنِ القول، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]. والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يُعَظِّمهم المسلمون على الدين، كلُّهم كانوا مؤمنين به، ولم يُعظِّم المسلمون - ولله الحمد - على الدين منافقًا. والإيمان يُعلم من الرجل كما يُعلمُ سائرُ أحوال قلبِه من موالاتِه ومعاداتِه، فهذه الأمور لها لوازم ظاهرة، والأمور الظاهرة تستلزم أمورًا باطنة، وهذا أمرٌ يعرفه الناسُ فيمن جرَّبوه وامتحنوه. ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابرًا ونحوهم كانوا مؤمنين بالرسول، محبين له، معظمين له، ليسوا منافقين، فكيف لا يُعلم ذلك في مثلِ الخلفاء الراشدين الذين أخبارُهم وإيمانُهم ومحبتُهم ونصرُهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقتِ البلادَ مشارقَها ومغاربها؟! فهذا مما ينبغي أن يُعرف، ولا يُجعل وجودُ قومٍ منافقين موجِبًا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق، بل نحن نعلم بالضرورة إيمانَ سعيدِ بن المسيب والحسنِ البصري ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدِ، ومَنْ هو دون هؤلاء، فكيف لا يُعلم إيمانُ الصحابة؟! وكلُّ واحدٍ يعلمُ إيمانَ كثيرٍ ممن يخالطه من الذين ظاهرهم الصلاح. ولا خلاف بين العلماء أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلًا، وذلك لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم كفارُ قريش على الإيمان وهم بمكة، فلم يكن يؤمن أحدُهم إلا باختياره، مع احتمال الأذى، فلم يكن أحدٌ يحتاج أن يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر، ولما ظهر الإسلامُ في قبائل الأنصار وقع بعض أهل المدينة في النفاق، حيث صار بعضُ من لم يؤمن بقلبه يُظهر موافقةَ قومه؛ لأن المؤمنين صار لهم سلطانٌ وعِزٌ ومَنَعة".

هذا، ولا يُعرف عن الصحابة اتصافُهم بشيء من صفات المنافقين من التهاون بالصلاة أو الكذب أو الخيانة أو خلف الوعد، بل كانوا أكمل الناس ديانةً وأخلاقًا، وعِلمًا وعملًا، وكيف نشك في ذلك وقد زكاهم الله في كتابه في آيات كثيرة، وأخبر أنه امتحن قلوبَهم للتقوى، وأنهم أحقُّ الناس بكلمة التقوى وكانوا أهلَها، وأنه حبَّب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وأنه كرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان؟!

قال العلماء: الصحابة لم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم يعلمون بالاضطرار أن مثل مالك، وشُعبة، والثوري، والشافعي، وأحمد ونحوهم لم يكونوا يتعمدون الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا على غيره، فكيف بابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة الذين زكاهم الله في كتابه في آيات كثيرة؟!

والمنافقون كانوا أحقر من أن يقوموا بحفظ القرآنِ والحديثِ، ونشرِ الدين، وتعليمِ الناس، وقد وصفهم الله في كتابه بأنهم لا يفقهون ولا يعلمون، وكانوا أحقر من أن يُؤتمنوا على قضاء المسلمين، وفتياهم، وولايتهم، ووصف الله أصحاب نبيه في آيات كثيرة بأنهم مؤمنون، صادقون، وأنهم أوتوا العلم، قال الله عن المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 16، 17].

فالصحابة هم أهل العلم، وهم أول من اهتدى، وزادهم الله هدى، وآتاهم تقواهم، فعجبًا لمن يُلَبِّس الحق بالباطل، ويُسوِّي بين الصحابة والمنافقين ليرد السنةَ النبويةَ التي تبين لنا القرآن الكريم، ويُشكِّك المسلمين في فضل الصحابةِ رضي الله عنهم!

أيها المسلمون، لا هداية لنا في الدنيا، ولا نجاة لنا في الآخرة إلا إذا اتبعنا سبيل الصحابةِ في إيمانهم وعَمَلهم، وفي عِلْمهم وأخلاقهم، كما قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصحابة الصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم وفقنا لاتِّباعِ سبيلِ الصحابة واتِّباعِهم بإحسان، اللهم إنا نحب رسولَك وأصحابه الذين أثنيت عليهم في كتابك فاحشرنا معهم، اللهم وفقنا للاعتصام بكتابِك وسنةِ نبيك، والتمسكِ بما كان عليه الخلفاء الراشدون، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].

عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللهم صل وسلم على نبينا محمدٍ سيد المرسلين، وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته الصالحين، وارضَ اللهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

المرفقات

1724607274_فضل الصحابة والرد على من يصفهم بالنفاق.docx

1724607274_فضل الصحابة والرد على من يصفهم بالنفاق.pdf

المشاهدات 7 | التعليقات 0