فضل الحياء

عبدالرحمن سليمان المصري
1446/06/17 - 2024/12/19 21:06PM

فضل الحياء

 الخطبة الأولى

 الحَمْدُ للهِ ذِي الفَضْلِ وَالإِحِسْانِ ، جَعَلَ الحَياءَ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ ، وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسلِيماً كَثِيراً ، أمَّا بَعدُ :

أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعَالَى فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرِينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.

عِبادَ اللهِ : إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُقَوِّي الإِيمَانَ وَيَجْلِبُهُ ؛ مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى ، الوَارِدَةِ في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، قالَ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ لِلهِ ‌تِسْعَةً ‌وَتِسْعِينَ اسْمًا ، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " رواه البخاري .

وَالجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا المَؤْمِنُونَ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ أَعْظَمَ يَنْبُوعٍ لِحُصُولِ الإِيمَانِ ، وَقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ ، مَعْرِفَةُ اللهِ بِأَسْمَائِهِ الحُسْنَى ، بِحِفْظِهَا ، وَفَهْمِ مَعَانِيهَا ، واعْتِقَادِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ، وَدُعَاءِ اللهِ بِهَا ، وَهَذا يَتَضَمَّنُ أَنْوَاعُ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةِ : تَوحِيدُ

الرُّبُوبِّيَةِ، وَالأُلُوهِيِّةِ ، وَالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ، وَهَذَا هُوَ رُوُحُ الإِيمَانِ ، وِأَصْلَهُ وَغَايَتَهُ .

 

عِبادَ اللهِ: وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الحَيِي ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الحَيَاءُ ، قَالَ تَعَالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ ،  يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ " رواه أبو داود .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَأَمَّا حَيَاءُ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ ،  فَذَاكَ نَوْعٌ آخَرُ، لاَ تَدْرِكُهُ الأَفْهَامُ، وَلاَ تُكَيِّفُهُ الْعُقُولُ ؛ فَإِنَّهُ حَيَاءُ كَرَمٍ ، وَبِرٍّ وَجُودٍ وَجَلاَلٍ ، فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ ؛ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً ، وَيَسْتَحْيِي أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ ، شَابَتْ فِي الإِسْلاَمِ . أ.هـ بتصرف.

 عِبادَ اللهِ : وَحَقِيقَةُ الحَيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلمَخْلُوقِينَ ، أَنَّهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الحَسَنِ ، وَتَرْكِ القَبِيحِ ، أَوْ التَّقَصِيرِ في الحُقُوقِ .

وَهُوَ خُلُقُ الأَنْبِيَاءِ ، وَسِمَةُ الأَتْقِيَاءِ ، وَصِفَةٌ يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالى ،  اتَّصَفَ بِهَا خِيَارُ الخَلْقِ ، وَأَثْنَى اللهُ عَلَى أَهْلِهِ ؛ فَالمَلَائِكَةُ مَوْصُوفُونَ بِهِ ، وَالأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ عُرِفُوا بِذَلِكَ عِنْدَ أَقْوَامِهِمْ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم  عَنْ نَبِيِّ اللهِ

مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ  :" إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا ، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ "رواه البخاري.

وَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم  كَانَ ‌أَشَدَّ ‌حَيَاءً ‌مِنَ ‌الْعَذْرَاءِ ‌فِي ‌خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ "رواه البخاري.

عِبادَ اللهِ : وَالحَياءُ خُلُقُ الإِسْلامِ وَشِعَارُهُ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا ، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الْحَيَاءُ "رواه الإمام مالك ، وصححه الألباني.

و" الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ، ‌وَالْحَيَاءُ ‌شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" "رواه مسلم .
ومَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:  دَعْهُ ؛ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَان " رواه البخاري .

وَهُوَ خَيْرُ زِينَةٍ يَتَزَيَّنُ بِهَا المُؤْمِنُ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: " ‌مَا ‌كَانَ ‌الفُحْشُ ‌فِي ‌شَيْءٍ ‌إِلَّا ‌شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ "رواه الترمذي ، وصححه الألباني.

عِبادَ اللهِ : وَأَعْلَى رُتَبِ الحَيَاءِ ؛ الحَيَاءُ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا ، فَيَسْتَحِي المُؤْمِنُ أَنْ يَفْقِدَهُ اللهُ حَيْثُ أَمَرَهُ ، أَوْ يَرَاهُ حَيْثُ نَهَاهُ ، أَوْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ نِعَمَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ .

 قَالَ ﷺ:" اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ:" لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ

الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ " رواه الترمذي وحسنه الالباني.

عِبادَ اللهِ : وَأَمَّا الْحَيَاءُ مِنَ النَّاسِ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَقَعَ أَعْيُنُهُمْ ، عَلَى مَا يُعَابُ بِهِ الإِنْسَانُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:  مَنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ ، لَا يَسْتَحِي مِنَ اللهِ .أ.هـ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ لُزُومُ الْحَيَاءِ ؛ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الإِيمَانِ وَالْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ عَدَمَهُ دَالٌّ عَلَى الْجَهْلِ وَنُقْصَانِ الإِيمَانِ ، قال صلى الله عليه وسلم: " ‌إِنَّ ‌الْحَيَاءَ ‌وَالْإِيمَانَ ‌قُرِنَا جَمِيعًا ، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ "رواه الحاكم ، وصححه الألباني.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.         

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً  ،    أمَّا بعدُ :

 

عِبادَ اللهِ: الْحَيَاءُ أَصْلُ كُلَّ حَسَنٍ وَخَيْرٍ ، وَالحَاجِزُ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ وَشَرٍّ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: " الحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ" رواه البخاري ، وفي رواية: " الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ " رواه مسلم.

 وَهُوَ مِنْ النِعَمِ العَظِيمَةِ عَلَى الإِنْسَانِ ، قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ :  ثُمَّ تَأَمَّلْ هَذَا الْخُلُقَ الَّذِي خُصَّ بِهِ الإِنْسَانُ ، دُونَ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ ، وَهُوَ خُلُقُ الْحَيَاءِ ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الأَخْلاَقِ وَأَجَلِّهَا ، وَأَعْظَمِهَا قَدْراً ، وَأَكْثَرِهَا نَفْعاً ، بَلْ هُوَ خَاصَّةُ

الإِنْسَانِيَّةِ ، فَمَنْ لاَ حَيَاءَ فِيهِ: لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الإِنْسَانِيَّةِ ، إِلاَّ اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَصُورَتُهُمُ الظَّاهِرَةُ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ  .أ.هـ. مفتاح دار السعادة.

عِبادَ اللهِ : وَعِنْدَمَا يُنْزَعُ الحَيَاءُ مِنَ العَبْدِ ، فَلَا تَسْأَلَ عَنْ هَلَكَتِهِ وَاجْتِمَاعِ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ فِيهِ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : " " ‌إِنَّ ‌مِمَّا ‌أَدْرَكَ ‌النَّاسُ ‌مِنْ ‌كَلَامِ ‌النُّبُوَّةِ ‌الْأُولَى ، ‌إِذَا ‌لَمْ ‌تَسْتَحِ ‌فَاصْنَعْ ‌مَا ‌شِئْتَ " رواه أحمد بسند صحيح . .

فَالتَشَبُّثُ بِالإِسْلَامِ ، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ ، حِصْنٌ حَصِينٌ، وَحَارِسٌ أَمِينٌ ، لِلتَّرْبِيَةِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَمُرَاقَبَةُ اللهِ تَعَالى في السَّرِّ وَالعَلانِيَةِ ، فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَ الحَيَاءَ لَهُ شِعَاراً وَدِثَاراً ، وَيَغْرِسَ فِي أَهْلِهِ وَبَنِيهِ الأَدَبَ وَالحَيَاءَ .

وَهِيَ أَفْضَلُ تَرِكَةٍ ، وَأَفْضَلُ مِيرَاثٍ يُخَلِّفُهُ المُسلمُ منْ بَعْدِهِ ، وَسَيَجْنِي ثِمَارَهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «‌الحَيَاءُ ‌مِنَ ‌الإِيمَانِ ، ‌وَالإِيمَانُ ‌فِي ‌الجَنَّةِ ، وَالبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ، وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ " رواه الترمذي ، وصححه الألباني.

 

وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ آل عمران:30.

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

المرفقات

1734631577_فضل الحياء خطبة2.docx

1734631577_فضل الحياء خطبة2.pdf

المشاهدات 359 | التعليقات 0