فضائل مِنًى
د. محمود بن أحمد الدوسري
فضائل مِنًى
د. محمود بن أحمد الدوسري
26/11/1438هـ
الحمد لله ...
مشعر مِنًى هو أحد شعائر الله تعالى التي أمر بتعظيمها, وهو أقربها إلى المسجد الحرام, وتقع مِنى في الجهة الشرقية منه, وتبعد عنه (4 كم), وسُمِّيت بذلك: لكثرة ما يُمنى (أي: يُراق) فيها من الدماء, وقيل: لأنَّ الله تعالى مَنَّ فيها على نبيه وخليله إبراهيم - عليه السلام - بفداء ابنه. وحدُّها: شرقاً وغرباً من جمرة العقبة إلى وادي محسِّر(1), وشمالاً وجنوباً ما أقبل عليها من الجبال المحيطة بها, دون ما أدبر(2), ويبلغ طولها: (5ر3 كم). ومساحتها: (35ر6 كم2) (3).
يبيت فيها الحُجاج ليلة التاسع من شهر ذي الحجة قبل الذهاب إلى عرفة, وليلة الحادي عشر والثاني عشر منه لمن أراد التعجل, وليلة الثالث عشر لمن أراد التأخر, وأيامها أيام أكلٍ وشُرب, وذِكْرٍ لله تعالى, كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم(4).
ومن الآيات القرآنية التي أشارت إلى مِنًى:
أ- قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:٢٠٣]. قال القرطبي - رحمه الله: (ولا خلاف بين العلماء: أنَّ الأيام المعدودات في هذه الآية, هي: أيام مِنًى, وهي أيام التشريق)(5).
ب- قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]. والأيام المعلومات تدخل فيها أيامُ مِنًى أو بعضُها, على خلافٍ بين العلماء, قال الطبري - رحمه الله - في تفسير الآية: (وهُنَّ أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل, وفي قول بعضهم: أيام العشر, وفي قول بعضهم: يوم النحر وأيام التشريق)(6), ولا مُشاحَّة في ذلك.
عباد الله .. وتضمُّ مِنًى عدداً من الشعائر المكانية العظيمة, منها:
أولاً: مسجد الخَيْف(7): ويقع قريباً من الجمرة الصُّغرى على سفح جبل الصَّابح, وهو مسجد تاريخي قديم, صلَّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام قَبْلَه(8), عَنِ ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا, منهم مُوسَى - عليه السلام, كَأَنِّي انْظُرُ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطَوانِيَّتانِ(9) وَهُوَ مُحْرِمٌ, عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوءَةَ, مَخْطُومٍ بِخِطَامِ لِيفٍ, له ضَفِيرَتَانِ)(10).
ومن الشعائر المعظمة التي تقع بمنًى:
ثانياً: الجَمَرات: والجمرات: جمع جمرة, وهي: اسم لمُجْتَمَع الحَصى التي يُرمى بها, وسُمِّيت بذلك: لاجتماع الناس بها(11).
وقيل: الجمرة هي الأحجار الصِّغار, سميت بذلك: للحَصى التي يُرمَى بها, يقال: جمر الرجل يجمر تجميراً إذا رمى جمار مكة(12).
وتقع الجَمَراتُ الثلاثُ في الجهة الغربية من مِنًى, فالصغرى: هي التي تلي مسجد الخَيْف, والكبرى: هي التي على حدود منًى من جهة مكة, والمسافة بين الكبرى والوسطى: (240 م), وبين الوسطى والصغرى: (148 م)[13].
وأصل مشروعية رمي الجَمَرات يعود إلى أبينا إبراهيم الخليل - عليه السلام: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - رَفَعَهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ, فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ(14), ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ, فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ, ثُمَّ عَرْضَ لَهُ فِي الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ, فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما: الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ, وَمَِّلةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ)(15).
وأصبحت الجمرات من شعائر الحج الظاهرة, والله تعالى أمر بتعظيم شعائره, فالحاج يرمي جمرة العقبة يوم العيد ضحى, ثم يرمي الجمرات الثَّلاث كلَّ يومٍ من أيام التشريق بعد الزوال, بدءاً من الجمرة الصغرى, ثم الوسطى, ثم الكبرى.
معشر الفضلاء .. والحكمة من رمي الجِمار: هي الخضوع والانقياد لله تعالى, والتَّعبد له وحده لا شريك له؛ حيث اقتضت الحكمة الإلهية أنْ يتعبَّدَ اللهُ تعالى عبادَه بأنواعٍ شتَّى من العبادات؛ ليميزَ الخبيث من الطَّيِّب, وليكونَ مُطْلَقُ الأمر والنهي من الله تعالى هو الدَّافع الحقيقي وراء امتثال المؤمن الصادق لله تعالى, وفيه اقتداءٌ بأبي الأنبياء إبراهيمَ - عليه السلام؛ كما تقدَّم من قول ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما: (الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ, وَمَِّلةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ), وفيه إشارة إلى إخلاص العبودية لله وحده, وإشارة أخرى وهي احتقار كلِّ معبودٍ من دونه سبحانه وتعالى؛ من شيطانٍ رجيم, أو وثنٍ, أو حجرٍ, أو غيرهم, بأن يحتقره الموحِّدون ويرمونه بالحِجارة, ففي هذه الأماكن التي اتَّخذ فيها الكفار الأصنامَ آلهةً لهم من دونه سبحانه وتعالى, في تلك الأماكن نفسِها تُهان الأحجار التي هي مادة تلك الأوثان, ويُهان كلُّ طاغوتٍ, أو جبارٍ, أو معبودٍ من دون الله تعالى, ويُهان الشيطانُ الذي أضَلَّ الناسَ عن عبادة الله سبحانه, وأغْواهم إلى عبادة غيره عز وجل؛ لذا كان الشيطانُ أشدَّ أيامه حسرةً وندامةً وخَنْساً عندما يُرمى بهذه الجمرات.
معشر الأحبة .. ومن فضائل رمي الجِمار:
أ- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ؛ لا يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(16).
وفي الحديث لطيفةٌ بالغة؛ وهي: لمَّا كان المؤمن الصَّادق مع الله تعالى قد امتثل الأمرَ الإلهي برمي الجمار وهو لا يدري الحكمةَ من ورائها, وكذا لا يدري ما الذي يرجمه, حيث كل هذه الحِكَم وإنْ كانت معقولة, فإنه لا يقطع بكونها هي فقط المقصودة, فربما هناك حِكَمٌ أُخرى غير معلومة لَدَينا؛ لذا أخفى الله تعالى جزاءَ ذلك العمل, ولا شك أنه جزاء عظيم حثًّا للمؤمنين ودفْعاً لهم إلى الطاعة والامتثال.
وفي لفظٍ: (وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَار؛ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاٍة رَمَيْتَهَا تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ) (17).
ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] (18).
ج- وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَمَيْتَ الجِمَارَ كَانَ لَكَ نُوراً يَوْمَ القِيَامَةِ)(19).
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
ومن الشعائر المعظمة التي تقع بِمِنًى:
ثالثاً: نحر الهَدْي: قال سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:٣٦].
ونَحْر الهدي إشارة إلى نحر كلِّ صوتٍ يخالف صوت الحقِّ, وكل منهج يخالف منهجَ الله تعالى, وفيه إعلاءٌ لأوامر الله سبحانه وتخليدٌ لذكرى أبينا إبراهيم - عليه السلام - الذي بلَغَ من التضحية مَبْلغاً حتى ضحَّى بولده وقُرَّةِ عينِه؛ تلبيةً لأمر ربِّه, مُخالفاً بذلك فِطرتَه, وعاطفتَه, وأُبوَّته, وهواه, ووساوسَ الشيطان, وفي كلِّ عامٍ يكون النحر في نفس المكان الذي نَحَرَ فيه إبراهيم إعلاءً لهذه القِيَمِ وتلك المُثُل.
رابعاً: حِلاقة الرأس:
أ- عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ), قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ), قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ), قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قال: (وَلِلْمُقَصِّرِينَ)(20).
ب- وعن ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَمَّا نَحْرُكَ؛ فَمَدْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَأَمَّا حِلاَقُكَ رَأْسَكَ؛ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ, وَتُمْحَى بِهَا عَنْكَ خَطِيئَةٌ)(21).
ج- وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَأَمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَعْرِكَ شَعْرَةٌ تَقَعُ عَلَى الأَرْضِ؛ إِلاَّ كَانَتْ لَكَ نُورَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(22).
الدعاء ...
ــــــــــــــ
الهوامش:
(1) (وادي محسِّر): وادٍ يمرُّ بين منًى ومزدلفة, على حدِّهما, وليس منهما, وسُمِّي بذلك؛ لأن فيل أبرهة حُسِر فيه, أي: أعيا وكلَّ وانقطع عن الذهاب إلى مكة, ومنه قوله تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4]. وهو المكان الذي أهلَك الله تعالى فيه أصحاب الفيل, لذا يُسَنُّ للحُجاج الإسراع فيه أثناء عودتهم من مزدلفة إلى منًى اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم. انظر: صحيح مسلم, (2/891).
(2) انظر: بحوث عن مشاعر الحرم, لعبد الله نذير أحمد (ص111-121).
(3) انظر: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به دراسة تاريخية وميدانية, (ص190)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص79).
(4) رواه مسلم, (2/800), (ح1141).
(5) الجامع لأحكام القرآن, (3/1).
(6) تفسير الطبري, (17/147).
(7) (مَسْجِدِ الْخَيْف): هو مَسْجِدٌ مَشْهُورٌ بِمِنًى, والخَيْفُ: ما ارْتفَعَ عَنْ مَجْرى السَّيل, وانْحَدرَ عن غِلَظِ الجبلِ, ومسجدُ مِنًى يُسَمَّى مَسجد الخَيْفِ؛ لأنه في سَفْحِ جَبَلِها. اهتمَّ به خلفاء المسلمين, وجُدِّد عِدَّة مرات, آخِرُها في عهد خادم الحرمين الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله سنة (1407هـ)؛ حيث تمَّت توسعته وعمارته, وبلغت مساحته: (000ر34م2), ويستوعب أكثر من (35000) مصلٍ. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر, (2/93)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص82).
(8) انظر: مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص82).
(9) (قَطَوانِيَّتانِ): قال ابن الأثير في (النهاية), ((4/85): (القَطَوانِيَّة: عَباءةٌ بيضاءُ قصيرة الخَمْل, والنون زائدة, كذا ذَكَره الجوهري في المُعْتل, وقال: (كِسَاء قَطَوانِيّ). وقَطَوان ـ بفتح القاف والطاء: موضع بالكوفة إليه تُنسب العُبيُّ والأكسية. انظر: الترغيب والترهيب, للمنذري (2/117)؛ لسان العرب, (15/191).
(10) رواه الطبراني في (الأوسط), (5/312), (ح5407)؛ و(الكبير), (11/452). (ح12283)؛ وحسَّنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/19), (ح1127).
(11) انظر: تهذيب الأسماء واللغات, للنووي (3/55)؛ فتح الباري (3/581).
(12) انظر: الاستذكار, لابن عبد البر (4/345-34).
(13) انظر: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به دراسة تاريخية وميدانية, (ص146)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص80).
(14) (سَاخَ فِي الأَرْضِ): أي: غاص فيها. يقال: ساخ في الأرض يسوخ ويسيخ إذا دخل فيها. انظر: لسان العرب, (3/35).
(15) رواه الحاكم في (المستدرك), (1/638), (ح1713) وقال: (صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/37), (ح1156).
(16) رواه ابن حبان في (صحيحه), (5/207), (ح1887). وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/34), (ح1155).
(17) رواه البزار في (مسنده), (12/317), (ح6177). وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/9), (ح1112): (حسن لغيره).
(18) رواه الطبراني في (الأوسط), (3/16), (ح2320). وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/11), (ح1113): (حسن لغيره).
(19) رواه البزار في (زوائده), (ص113). وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/37), (ح1157): (حسن صحيح).
(20) رواه البخاري, (2/617), (ح1641)؛ ومسلم, واللفظ له, (2/946), (ح1302).
(21) رواه البزار في (مسنده), (12/317), (ح6177). وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/9), (ح1112): (حسن لغيره).
(22) رواه الطبراني في (الأوسط), (3/16), (ح2320). وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/11), (ح1113): (حسن لغيره).
المرفقات
فضائل-منًى
فضائل-منًى