فضائل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
فضائلُ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضيَ اللهُ عنهُ
الخطبة الأولى
إن الحمدَ لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا ، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يضللْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :-
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فإنَّها خيرُ لباسٍ وزاد ، وأفضلُ وسيلةٍ إلى رضا ربِّ العباد : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } .
عبادَ الله : لقد بَلَغَ الصَّحابَةُ الكِرامُ رضي الله عنهم مَراتِبَ الكَمَالِ ، واخْتَصَّهُمُ اللهُ تعالى بِأَعْظَمِ الفَضائِلِ وأَطْيَبِ الخِصالِ ، وبَوَّأَهُمْ مَنْزِلَةً لا تَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِمْ ، حتى جَعَلَ حُبَّهُمْ مِيزانًا للإيمان ، وبُغْضَهم عَلَامَةً على النِّفاق . وأثنى عليهم ربنا في كتابه وزكاهم ، قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 10] ، وهم خير الناس ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ..) [رواه البخاري ومسلم] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ) [رواه البخاري ومسلم] . والصحابة هم نقلة الدين إلى الأمة ، فإذا قُدِح فيهم قُدِح فيما نقلوه ، وهو الكتاب والسنة .
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : " إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَنَا حَقٌّ ، وَالقُرْآنَ حَقٌّ ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا القُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَجْرَحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ " [رواه الخطيب في الكفاية] ، والصحابي في اصطلاح أهل العلم : هو كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا ومات على ذلك . ومِنْ أُولَئِكَ الصَّحْبِ الكِرامِ أَمِيرُ المؤمنين مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه ، الذي شرَّفَه اللهُ بِصُحْبَةِ نَبِيِّه ، فهو صحابيٌ ابنُ صحابي ، واسم أبيه : صخر بن حرب ، وأخته أم حبيبة بنتُ أبي سفيان صحابيةٌ ، وهي إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمهات المؤمنين ، ولذا يسمى معاوية : خالَ المؤمنين لأن أخته رضي الله عنها أم المؤمنين . وهو مِنْ أَفَاضِلِ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصْدَقِهِمْ لَهْجَةً ، وأكثرِهم حِلْمًا وعدلًا . وثَبَتَ له من الفضائلِ والمَناقِبِ ما يدلُّ على عُلُوِّ شَأْنِه ، ورفيعِ مَنزِلَتِه ، وكرِيمِ سَجاياه . ومن مناقِبَهُ : أنه كاتبُ وحي الله الأمين ، ومِنْ رُواةِ الأحاديث ، وأحدُ خلفاء المسلمين ، الخليفة والمَلِكُ القائِدُ ، صاحِبُ الفُتوحاتِ الإسلامية ، وداهِيَةُ زمانِه ، شَهِد حنينًا ، وشهد اليمامة ، وكان رضي الله عنه عاقلاً في دُنياه ، حسنَ التدبير ، حكيمًا فصيحًا بليغًا ، وكان كريمًا باذلاً للمال ، يَحلُم في موْضع الحِلم ، ويشتدُّ في موضع الشِّدة ، إلاَّ أنَّ الحلم كان أغلبَ عليه ، وكان يُضرب بحلمه المَثل .
دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بدعوات عظيمة ، ففي الحديث عن عبد الرحمن بن أبي عُمَيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية : ( اللهم اجعله هادياً مهديًّا ، واهدِ به ) [ رواه الترمذي وصححه الألباني في الصحيحة] . وعن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم علّم معاويةَ الكتاب والحساب ، وقِهِ العذاب ) [رواه أحمد وصححه بشواهده الألباني في الصحيحة] . وعن أم حرام الأنصارية رضي الله عنها ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ) [ رواه البخاري] ، أي فعلوا فعلا وجبت لهم به الجنة . [الفتح] . قال المهلّب بن أبي صفرة : " في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أولُ من غزا البحر " [الفتح] . كَانَ مُحَبَّباً إِلَى رَعِيَّتِهِ ، عَمِلَ على نِيَابَةِ الشَّامِ عِشْرِيْنَ سَنَةً ، وَالخِلاَفَةِ عِشْرِيْنَ سَنَةً ، بَلْ دَانَتْ لَهُ الأُمَمُ ، وكانت خلافة معاوية خيرًا للمسلمين ، انطفأتِ بها الفِتنة ، واجتمع المسلمون على رايةٍ واحدة ، وعادتِ الفُتوحات ، وسار معاوية رضي الله عنه سِيرةً حسنة بالناس . هذه بعض فضائل ومناقب هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه ، فمن رأيناه يطعن فيه بعد ذلك فهو مبتدع صاحب هوى . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى فضله وإحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيراً . أما بعد :-
فإن السلف الصالح كانوا لا يُفَضِّلون أحدًا على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يرضون بالطعن على أحد منهم ، ومما يدل على ذلك ، أن بعض الناس فضَّل عمر بن عبد العزيز ، وهو من التابعين ومن المشهورين بالعدل ، فضَّله على معاوية ، فماذا قال السلف في ذلك ؟ قال رجل للمعافى بن عمران : " عمر بن عبد العزيز أفضل من معاوية ، فغضب المعافى ، وقال : لا يقاس أحد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، معاوية صاحبه وصهره وكاتبه ، وأمينه على وحي الله عز وجل . ولمَّا سُئِلَ ابنُ المُبارَكِ : أيُّهُمَا أَفْضَلُ : مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفيان ، أَوْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؟ فأجاب قائلًا : ( واللهِ إنَّ الغُبَارَ الذي دَخَلَ في أَنْفِ مُعاوِيَةَ - في الجهاد في سبيل الله - مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بألفِ مَرَّةٍ ، صَلَّى معاويةُ خَلْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » ، فقال معاويةُ : " رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ "، فما بَعْدَ هذا؟ ) وهذا يدل على مكانة الصحبة وأن فضلها لا يعدله شيء .
عباد الله : إن الطعن في معاوية طَعْنٌ في وظيفته التي عينه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، وهي كتابة الوحي ، وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّعْنَ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، إِذْ كَيْفَ يَأْتَمِنُ عَلَى كِتَابَةِ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى مَنْ لاَ يُوثَقُ فِيهِ ؟! . والطَّعْنُ فِي مُعَاوِيَةَ طَعْنٌ فِي عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما اللذين ولَّيَاه الشامَ كلَّها ، وَاتِّهَامٌ لَهُمَا بِأَنَّهُمَا قَدْ غَشَّا الأُمَّةَ وَلَمْ يَنْصَحَا لَهَا ، وَالطَّعْنُ فِي مُعَاوِيَةَ طَعْنٌ فِي الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما لِأَنّهُ سَلَّمَهُ الخِلَافَةَ ، وقد أَثْنَى النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِ الحَسَنِ ، وَبَشَّرَ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، وَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : ( إن ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ ) [رواه البخاري] .
عباد الله : إنَّ أهل البدع والأهواء والضلال كالخوارج والروافض ومن تأثر بهم وسلك سبيلهم لا يحترمون الصحابة ولا يُجِلُّونهم ولا يحبونهم بل يطعنون فيهم ويذمونهم ويقدحون فيهم ، وهم في ذلك ما بين مستقل ومستكثر ، وقد كثر طعنهم في معاوية رضي الله عنه على وجه الخصوص ، فنسبوه الى الظلم والجور والى الكذب والخداع والى السرقة والخيانة ، بل إلى الكفر والنفاق والعياذ بالله ، ولا يَتَفَوَّه بهذه الأوصاف القبيحة في حق هذا الصحابي الجليل الذي قَدَّمَ للإسلام ما قدم إلا من كان في قلبه حقد وبغض وكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالواجب على كلِّ مسلم سلامةَ الصدر لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعدمَ الخوض فيما دار بينهم ، فلا نخوض فيما شَجَر بينهم ، بل نتولاَّهم جميعًا ونترضَّى عنهم ، قال سبحانه : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } . قال الإمام أحمد رحمه الله : " ومِن السُّنَّة ذِكْرُ محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم أجمعين ، والكفُّ عن الذي شَجَر بينهم ، فمن سبَّ أصحاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أو واحدًا ، فهو مبتدعٌ رافضي ، حبُّهم سُنَّة ، والدُّعاء لهم قُربة ، والاقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بآرائهم فَضيلة " [ السنة للإمام أحمد] . رضي الله عن صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين .. هَذَا ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين ، وعن التَّابِعين ، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين ، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين حكاماً ومحكومين ، اللهم وفق ولاة أمرنا لما يرضيك ومدهم بعونك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك وحماة لشريعتك ، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة ، وأرهم الحق حقا وارزقهم اتباعه ، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وجماعتنا بسوء فأشغله بنفسه ورُدّ كيده في نحره وافضح أمره يا قوي يا عزيز ، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين ، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان ، اللهم ارفع البلاء عنهم ، اللهم احقن دماءهم ، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين ، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 20/1/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1721814794_فضائلُ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضيَ اللهُ عنهُ.docx