فضائل عرفة ومزدلفة

د. محمود بن أحمد الدوسري
1438/12/07 - 2017/08/29 22:04PM

فضائل عرفة ومزدلفة

د. محمود بن أحمد الدوسري

19/11/1438هـ

       الحمد لله ...

       حديثنا اليوم – إخوتي الكرام عن فضائل عرفة ومزدلفة, وهما من شعائر الله تعالى المعظمة التي أمر الله تعالى بتعظيمها في قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

       فأما عرفة فهي أرض مستوية تُحيط بها الجبال على شكل قوس كبير يكون وَتَرُه وادي عُرَنَةَ, وعرفة في الجنوب الشرقي من مكة المكرمة, وتبعد (18 كم) عن المسجد الحرام, وهي في الحِلِّ, ولا يفصلها عن الحرم إلاَّ وَادِي عُرَنَةَ, وتبلغ مساحتها (95ر17 كم2)(1).

      وعرفة من المناسك المكانية المُعظَّمة حول البلد الحرام, والتي أمر الشرع بقصدها في أداء فريضة الحج, والوقوف بها ركن من أركان الحج, فمَنْ فاته الوقوف بعرفة, فقد فاته الحجُّ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ نَاسٌ من أَهْلِ نَجْدٍ, فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ الْحَجُّ؟ قال: (الْحَجُّ عَرَفَةُ)(2).

      ولعل سائلاً يسأل: لماذا كانت (عرفة) خارج حدود الحرم, على عكس (مِنًى ومزدلفة) فهما داخلتان في حدود الحرم؟

      سبحان الله العظيم! رغم خروج (عرفة) من حدود الحرم, إلاَّ أنَّ الوقوف بها (ركن) من أركان الحج, بخلاف المبيت (بمزدلفة, ومِنًى) فهو واجب من واجبات الحج.

     وعلَّل بعض أهل العلم هذه المفارقة العجيبة؛ بما جاء عن الخليل بن أحمد - رحمه الله - قال: سمعتُ سفيان الثوري - رحمه الله - يقول:(قدمتُ مكة فإذا أنا بجعفر بن محمد قد أناخ بالأبطح، فسألته: لم جُعِلَ الموقف من وراء الحرم, ولم يُصَيَّرْ في المشعر الحرام؟ فقال: الكعبة: بيت الله، والحرم: حجابه، والموقف: بابه، فلمَّا قصدوه أوقفهم بالباب يتضرَّعون، فلمَّا أذِن لهم بالدخول، أدناهم من الباب الثاني، وهو المزدلفة، فلمَّا نظر إلى كثرة تضرُّعهم وطول اجتهادهم رحِمَهم، فلمَّا رحمهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلمَّا قرَّبوا قربانهم، وقضوا تَفَثَهم، وتطَّهروا من الذنوب, أمَرَهم بالزيارة لبيته.

      قال له : فلم كُرِه الصوم أيام التشريق؟ قال: لأنهم في ضيافة الله, ولا يجب على الضَّيف أن يصوم عند مَنْ أضافه.

      قلت: جُعِلْتُ فداك، فما بال الناس يتعلَّقون بأستار الكعبة, وهي خِرَق لا تنفع شيئاً؟ فقال: ذلك مَثَلُ رجل بينه وبين آخر جرم، فهو يتعلق به, ويطوف حوله, رجاء أن يهب له جُرْمَه)(3).

       وقد أودع الله تعالى في بيته سراً عظيماً؛ بحيث تُقبل عليه النفوس وتشتاق إليه وإلى رؤيته, ولا يقضون منه وطراً أبداً, كلَّما ازدادوا له زيارة؛ ازدادوا له حباً وإليه اشتياقاً فلا الوصال يشفيهم, ولا البعاد يسليهم(4).

   وما إن رأيتُ ستارَ العتيقِ       بقلبي هواهُ أسيـرٌ حبيـسْ
   أوجِّهُ وجهي له بِخُشوعٍ         كوجْهِ العَروسِ لوَجْهِ العريس
   أُسائلُ نفسي وقومي هُجُوعْ      أحقاً أتًيتُ لأغلى الرُّبوعْ؟
   أنام وأصحو وقلبي يُلبِّي         وتنسابُ منْ مُقْلَتَيَّ الدموعْ

       عباد الله .. جعل الله تعالى بعرفة فضائل عظيمة ومتنوعة, ومن أبرزها:

       أ- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ, مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ لَيَدْنُو, ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلاَئِكَةَ, فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ)(5).

       ب- وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ, فَيَقُولُ لَهُمُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا)(6).

       ج- وعن أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قال: وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ, وقَدْ كادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَؤُوبَ, فقال: (يَا بِلاَلُ! أَنْصِتْ لِي النَّاسَ). فَقَامَ بِلاَلٌ - رضي الله عنه, فَقَالَ: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم, فَأَنْصَتَ النَّاسُ, فَقَالَ: (مَعَاشِرَ النَّاسِ! أَتَانِي جِبْرَائِيْلُ - عليه السلام - آنِفًا, فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلاَمَ, وَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَرَ لأَهْلِ عَرَفَاتٍ, وَأَهْلِ المَشْعَرِ, وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ). فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا لَنَا خَاصَّةٌ؟ قَالَ: (هَذَا لَكُمْ, وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ). فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه: كَثُرَ خَيْرُ اللهِ وَطَابَ(7).

       د- وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (...فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا, اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ, وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ, وَرَمْلِ عَالِجٍ[8])[9].

       أيها المسلمون .. ومن حكمة الوقوف بعرفة تذكير المسلمين بمشهد عظيم, وهو مشهد الحشر, حيث يُحشر الناس بكافَّة أشكالهم وألوانهم وأجناسهم للعرض على الله تعالى؛ ولمَّا كان مشهد البعث أرجى شيءٍ فيه هو أن يُعتَقَ العبدُ من النار, ويفوز بمغفرة الواحد القهار, وكان مشهد الوقوف بعرفة مُشابهاً لمشهد البعث, جعل الله تعالى العتقَ والمغفرةَ هما جزاء هذا الوقوف.

       ومن حكمة الوقوف بعرفة تجرَّد العبد من الدنيا وزينتها, ووقوفه بين يدي ربِّه خاضعاً مستكيناً؛ بلا حسب ولا نسب ولا مال, فقد أعلن بلباسه الأبيض المُجرَّد من كلِّ مظهرٍ من مظاهر الزِّينة - أعلن - التَّواضعَ لله عز وجل بما تعجز عنه الكلمات ولا تفي بمضمونه العبارات.

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله ...

       يقع مشعر مزدلفة بين عرفاتٍ ومِنًى, ويفصلها عن مِنًى وادي مُحسِّر, وتبعد عن عرفات  (6 كم), وعن المسجد الحرام (8 كم) من جهته الجنوبية الشرقية, وتُقدَّر مساحتها بنحو (36ر9 كم2) (10).

       وسُمِّيت بمزدلفة من التَّزلُّف والازدلاف, وهو التقرُّب؛ لأن الحُجَّاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها, أي: مضوا إليها وتقرَّبوا منها. وقيل: سُمِّيت بذلك لمجيء الناس إليها في زُلف من الليل, أي: ساعات. وتُسَمَّى أيضاً جَمْعاً؛ لاجتماع الناس بها, أو للجَمْع بين صلاتي المغرب والعشاء فيها, وتُسَمَّى أيضاً المَشْعَر الحرام, من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنه مَعْلَمٌ للحج, وارتبط به بعض ما هو مطلوب في الحج؛ كالمبيت, والجمع بين صلاتي المغرب والعشاء, ووُصِف بالحرام؛ لحُرْمَته؛ ولأنه واقع ضِمْن حدود الحرم(11).

       وقد ذَكَرَ اللهُ مزدلفةَ في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. والمبيت بمزدلفة ليلة العاشر من ذي الحجة واجب من واجبات الحج.

       معشر الأحبة .. أما عن فضائل مزدلفة فهي فضائل عظيمة ومباركة:

      أ- عن بِلاَلِ بنِ رَبَاحٍ - رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ غَدَاةَ جَمْعٍ: (يَا بِلاَلُ! أَسْكِتِ النَّاسَ) أو: (أَنْصِتِ النَّاسَ), ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ(12) في جَمْعِكُمْ هَذا  فَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ, وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ, ادْفَعُوا بِاسْمِ اللَّهِ)(13).

      ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَعَاشِرَ النَّاسِ! أَتَانِي جِبْرَائِيْلُ - عليه السلام - آنِفًا, فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلاَمَ, وَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَرَ لأَهْلِ عَرَفَاتٍ, وَأَهْلِ المَشْعَرِ, وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ)(14).

       والشَّبَه بين الوقوف بعرفة وبين المبيت بمزدلفة واضِحٌ وجلي؛ إذ يشتركان في اجتماع الناس بهما في وقت مخصوص؛ ففي عرفات يجتمع الناس نهاراً حتى تغرب الشمس يجأرون إلى الله تعالى, وفي مزدلفة يجتمعون للمبيت بها يستريحون من المشقَّة والنَّصَب نهاراً, كما أنه بعرفات يُجمع بين صلاتي الظهر والعصر ويقصران, وفي مزدلفة يُجمع بين صلاتي المغرب والعشاء ويقصر من صلاة العشاء, ولعل هذا الشَّبَه في النُّسك هو الذي جمع بينهما في الأجر.

       الدعاء ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به دراسة تاريخية وميدانية, (ص256)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص88).

(2)  رواه ابن ماجه, (2/1003), (ح3015). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه), (3/44), (ح2459).

(3) تاريخ الإسلام, (9/92), للذهبي. وانظر: شعب الإيمان, للبيهقي (3/496)؛ تاريخ مدينة دمشق, (6/352)؛ تهذيب الكمال, (5/94).

(4) انظر: بدائع الفوائد, لابن القيم (2/281).

(5) رواه مسلم, (2/982), (ح1348).

(6) رواه ابن خزيمة في (صحيحه), (4/263), (ح2839). وصححه النووي في  (المجموع), (7/322), والألباني في (صحيح الترغيب والترهيب),           (2/33),(ح1152).

(7) رواه ابن عبد البر في (التمهيد), (1/182), (ح405)؛ والمنذري في الترغيب الترهيب), (2/131), (ح1796). وقال الألباني في (صحيح الترغيب

      الترهيب), (2/33), (ح1151): (صحيح لغيره).

(8) (رَمْلِ عَالِجٍ): هو موضِعٌ مشهور بكثرة رماله, قال ابن الحائك: رَمْلُ عالجٍ يقطعُ بين جبلي طيء, وأرض فزارة في الدهناء. وقيل: إنَّ رمل             عالج يصل إلى الدَّهناء, والدَّهناءُ: فيما بين اليمامة والبصرة, وهي جبال, والجبل منها يكون ميلاً, وأكثر من ذلك. وقيل: إنَّ عاداً كانوا                 ينزلون اليمن, وكان مساكنهم منها بالشجرة والأحقاف، وهي رمالٌ يقال لها: رمل عالج. وقيل: الرمل العالج: هو المتراكم والمتداخل بعضه            في بعض. انظر: صفة جزيرة العرب, (ص88) لابن الحائك الهمداني (ت334)؛ معجم ما استعجم, (3/913)؛ تفسير الثعلبي, (4/246).

(9) رواه ابن حبان في (صحيحه), (5/207), (ح1887). وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/34), (ح1155).

(10) انظر: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به دراسة تاريخية وميدانية, (ص201)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص84).

(11) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم, (8/187)؛ تفسير البغوي, (1/174)؛ بحوث عن مشاعر الحرم, (11-15).

(12) (تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ): مِن الطَّول بمعنى: الفَضْل, أي: تَفَضَّل وتَكَرَّمَ عليكم, بأنْ أعطاكم فوق أعمالكم, بأن وهَبَ مسيئَكم لمحسنِكم, أي: بقبول               شفاعة المحسنين ودعائهم, غَفَر لمسيئِكم أيضاً. انظر: شرح سنن ابن ماجه, للسيوطي وآخرين (1/217).

(13) رواه ابن ماجه, (2/1006), (ح3024). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه), (3/48), (ح2468).   

(14) مضى تخريجه, هامش رقم (7).

 

المرفقات

عرفة-ومزدلفة

عرفة-ومزدلفة

المشاهدات 902 | التعليقات 0