فساد الزمان
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) .. أَمَّا بَعْدُ:
كَانَ رَجُلاً تَقيَّاً حَافِظَاً لِحُدودِ الرَّحمَنِ، بَعيداً عَن الإثمِ والحِرامِ والعِصيانِ، وَفَجأةً .. ظَهَرَتْ عَليهِ آثَارُ التَّبديلِ وَضَعفِ الإيمَانِ، وتَرَكَ مَا كَانَ عَليهِ مِن صَلاحٍ وإحسَانٍ، وَعِندَمَا نَاصَحَهُ الأحِبَّةُ والإخوانُ، قَالَ: اللهُ المُستَعانُ، قَد فَسَدَ الزَّمانُ، فهَل أَصبَحَ فَسَادُ الزَّمانِ حُجَّةً لِمَنْ يَشعُرُ بالخَطَأِ والتَّقصِيرِ؟، وَهَلْ صَارَ لتَأنيبِ الضَّميرِ شَمَّاعةَ مَعَاذِيرٍ؟، وَهَلْ فَعلَ بِكُلِّ مَلامَةٍ مَفعولَ إِبرَةِ التَّخدِيرِ؟، وَلَكِنْ صَدَقَ الشَّاعرُ حِينَ قَالَ:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا *** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ *** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجَانا
فَالعَجَبَ العُجَابَ أنَّنا نَحنُ الذينَ أَفسدنَا الزَّمَانَ، ثُمَّ نَشكُو أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ الانحِرافِ والعِصيَانِ، وَلو فَرضنَا أَنَّ الزَّمَانَ فَسَدَ، فَهَل يُختَبرُ الإيمانُ إلا في فَسَادِ الزَّمانِ؟، وَهَلْ بُعِثَ الأنبياءُ إلا في فَسَادِ الزَّمان؟ِ، وَهُل عُذِّبَ الصَّحابَةُ وثَبتوا إلا في فَسَادِ الزَّمانِ؟، وَهَل يَعظمُ أَجرُ الصَّبرِ إلا في فَسَادِ الزَّمانِ؟، قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟، قَالَ: (بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ).
أَيُّها الأحِبَّةُ .. نَحنُ في كُلِّ يَومٍ نُواجِهُ طُوفَاناً مِن الفِتَنِ والشَّهَواتِ، ونُصَارِعُ أَعَاصيرَ مِن التَّشكِيكِ والشَّهَواتِ، في العَقَائدِ والأحكَامِ الفِقهِيَّةِ والأخلاقِ، فَأَصبَحَ مَحلُ خِلافٍ مَا كَانَ إجماعٌ واتِّفاقٍ، وأَصبَحَ تَمييعُ أَحكامِ الدِّينِ، مِن فِقهِ التَّيسيرِ عَلى المُسلمينَ، وتَنَازَلَ الكَثيرُ عَن مَبادئهِ الجَمِيلةِ، بِسببِ ضُغوطِ المَجتَمَعِ الثَّقَيلةِ، وإذا عَاتَبَهُم الأحِبَّةُ والإخوانُ، قَالوا: اللهُ المُستَعانُ، قَد فَسَدَ الزَّمانُ.
فَنَصيحَةٌ مِنَ القَلبِ لِمَنْ يَعتَذِرُ بِفَسادِ الزَّمانِ، عَليهِ أَنْ يُرَاجِعَ مَا في قَلبِهِ مِن إيمَانٍ، فَاللهُ تَعَالى قَد وَعَدَ عِبَادَهُ بالثَّباتِ، في الحَياةِ الدُّنيا وبَعدَ المَمَاتِ، كَمَا قَالَ سُبحَانَهُ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)، فَمَنْ صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ، ومَن اعتَصَمَ بِهِ وَفَّقَهُ، وسَيَعلَمُ حِينَها الصَّادِقونَ، الذينَ هُم عَلَى الجَمرِ قَابِضونَ، قِمَّةَ المَدحِ فِي قَولِهِ تَعَالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
اليَومَ قَد أَصبَحَ الثَّابتُ عَلى الحَقِّ فِي وَحشَةٍ مِنَ الطَّريقِ، مِمَا يَراهُ مِن كَثرةِ السَّاقطينَ وقِلَّةِ الصَّديقِ، قَالَ وَهبُ بنُ مُنبَّهَ رَحِمَهُ اللهُ: مَرَّ رَجلٌ عَابدٌ عَلى رَجلٍ عَابدٍ، فَقَالَ مَالَكَ؟، قَالَ: أَعجَبُ مِن فُلانٍ، إنَّهُ كَانَ قَد بَلغَ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَمَالَتْ بِهِ الدُّنيا، فَقَالَ: لا تَعجَبْ مِمَنْ تَميلُ بِهِ، وَلَكنْ اعجَبْ مِمنْ استَقَامَ.
فَهَلْ تَعلَمُ مَا هُو طَريقُ النَّجَاةِ في هَذا الزَّمانِ؟، اسمَعْ إلى نَصيحَةِ الصَّحَابي حُذَيفَةَ بِنِ اليَمانِ، يَقولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَيَأتينَّ عَلى النَّاسِ زَمَانٌ، لا يَنجو فِيهِ إلَّا مَنْ دَعَا كَدُعَاءِ الغَريقِ)، فَالدُّعاءَ .. الدُّعاءَ، لِيَلهَجَ لِسانُكَ بِدُعاءِ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)، وأَكثِرْ مِن قَولِ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، تَقولُ عَائشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُكْثِرُ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ؟، فَقَالَ: (إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ(، فاللهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
أقولُ هذا القَولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمدًا كَثيراً طَيِّباً مُباركاً فِيهِ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمداً عَبدهُ ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه ومن تَبعَهم بإحسانٍ وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ:
أَيّهَا الأحِبَّةُ .. هَلْ مَا نَعِيشُهُ اليَومَ هُو نَتيجةُ فَسَادِ الزَّمَانُ، أو حَصيلةُ فَسَادِ الإنسانِ؟، وَدَعوني أُصَارِحُكُم أنَّ المُهِمَ لَيسَ الإجَابةُ الصَّائبةُ، وإنَّما المُهِمُّ هو العَملُ لِلنَّجاةِ مِنَ الفِتَنِ النَّائبةِ، كَمَا أَوصَانَا بِذَلِكَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَـالِ فِتَنًا كَقَطْعِ اللَّيْلِ الْـمُظْلِـمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرْضٍ مِنَ الدُّنْيَا)، فَنَعُوذُ باللهِ مِن فِتنٍ يَذهَبُ مَعَها دِينُ الرَّجُلِ بَينَ عَشيَّةٍ وضُحَاها، فَلا تَقُلْ: فَسَدَ الزَّمانَ، بَل قُلْ: آنَ الآوانُ، لِطَاعَةِ رَبِّ الأرضِ والسَّماواتِ، والمُحَافَظةِ عَلى الصَّالِحاتِ، فَإنَّها خَيرُ مَعينٍ لِلثَّباتِ، كَمَا قَالَ تَعَالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا).
ومِن أَعظَمِ الأعمَالِ لِتَثبيتِ أَهلِ الإيمَانِ، هِي كَثرةُ قِراءةِ القُرآنِ، فَفيهِ الهُدى والبَيانُ، كَما قَالَ اللهُ تَعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)، وعَليكُم بِكَثرةِ ذِكرِ اللهِ في كُلِّ الأوقَاتِ، فإنَّهُ مِن أَسهَلِ وَسائلِ الثَّبَاتِ، قَالَ تَعَالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
يَقُولُ أَحَدُهم: (ستَمرُّ بِكَ أيامٌ عِجافٌ، القَابضُ فيها على دينِه كالقَابضِ على الجَمرِ، سيُحزنُك الواقعَ، وتؤلمك المناظرَ، تِلكَ المَشاعرُ، عَظيمةٌ عِندَ اللهِ، وَدَليلُ خَيرٍ وَقرَ في قَلبِكَ، لا تَنحَرهَا بِسِكينِ الانتكاسةِ، ولا يغرنَّكَ في طَريقِ الحقِّ قِلةُ السَّالكينَ، ولا يغرنَّك في طَريقِ الباطلِ كثرةُ الهالكينَ، أَنتَ الجَمَاعةُ ولو كُنتَ وَحدَك، كُن غَريبًا فطُوبى للغُرباءِ، تَسيرُ شَريعةُ السَّماءِ غيرُ آبهةٍ بأَسماءِ المتخاذلينَ، تَسقطُ أسماءٌ، وتعلو أَسماءٌ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، اللَّهُمَّ يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا على دِيْنِكَ، ويا مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوْبَنَا على طَاعَتِك، اللهمَّ احفظنا بالإسلامِ قائمينَ، واحفظنا بالإسلامِ قَاعدينَ، واحفظنا بالإسلامِ رَاقدينَ، ولا تُشمت بنا أعداءً ولا حاسدينَ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ ألّفْ بينَ قلوبِ المؤمنينَ وأصلحْ ذاتَ بينهم، واهدهم سُبلَ السَّلامِ ونجّهم من الظلماتِ إلى النورِ، اللهم أصلح أحوالَ المسلمينَ حُكَّاماً ومحكومينَ، اللهم ولِّ على المسلمينَ خيارَهم واكفهم شرارَهم واجمع كلمتَهم على الحقِّ يا ربَّ العالمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، وانصر عبادَك المؤمنينَ في كلِّ مَكانٍ.
المرفقات
1703665476_فساد الزمان.docx
1703665484_فساد الزمان.pdf