فرص رمضان وبيوت الرحمن
شايع بن محمد الغبيشي
فرص رمضان وبيوت الرحمن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ([1])
لو أنَّ رجلاً أرهقتْه الديون، وكَثُرَ عليه الغُرماء، وهو لا يملك من حُطام الدنيا شيئًا، فتوالتْ عليه الهمومُ، وأصابَه من الغَمِّ ما نغَّص عليه عيشَه، فتوارَى عن أعْين الغُرماء، واختبأ في بيته، وإذا بالزوجة والأولاد يطالبونه بالنفقة والطعام والشراب، فخرجَ من بيته هائماً على وجهه لا يدري إلى أين يتَّجِه وبمَن يلوذ، فلقِيَه رجلٌ، فقال له: إلى أين؟ مالي أراك مهمومًا؟ فبثَّ إليه شكواه، فقال له: لا عليك، اذهبْ إلى التاجر الفلاني؛ فإنه يعطي عطاءَ مَن لا يخْشى الفقرَ، سيسدِّد ديونَك كلَّها، ويُعطيك من المال ما يسدُّ حاجتك وزيادة، وهو مع ذلك يفرحُ بمن يقدمُ عليه، بل يبادره بالعَطيَّة، هل تتوقعون عباد الله أنه يتأخَّر أو يتردَّد في الذهاب إلى ذلك التاجر، كلاَّ، كلاَّ. ولله المثَلُ الأعلى: نحن أشبه ما نكون حالاً بذلك الرجل، أحاطتْ بنا الذنوب إحاطةَ السوار بالمعْصم؛ ذنوبٌ جَنَتْها العينُ، وذنوب جنَتْها الأُذن، وذنوب جناها اللسان، وذنوب مشتْ إليها الرِّجْل، وذنوب، وذنوب، وذنوب، أوْقَعَتْنا في الهموم والغموم والضيق، إن توارينا عن الناس واعتزلناهم وفررْنا إلى البيوت خوفًا من تلك الذنوب، لاحَقَتْنا حتى في غرفة النوم، فإلى أين المفرُّ؟ وأين المخرَج؟ لا ملاذَ لنا ولا مفرَّ إلا إلى الله؛ ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ الله الذي هو أرحمُ بالواحد منَّا مِن أُمِّه وأبيه، بل أرحم به من نفسه، يفرح بإقبال عبده إليه، مَن فرَّ إليه، فرَّتْ إليه الخيرات، مَن تقرَّب إليه، توالتْ عليه المسرَّات؛ عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن تقرَّب إلى الله عز وجل شبرًا، تقرَّب إليه ذراعًا، ومَن تقرَّب إلى الله ذراعًا، تقرَّب إليه باعًا، ومَن أقبلَ على الله عزَّ وجلَّ ماشيًا، أقبلَ الله إليه مُهَرولاً، والله أعلى وأجلُّ، والله أعلى وأجلُّ، والله أعلى وأجلُّ))؛ رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح.
ومِن رحمة ربِّنا بنا أنه يبادرُ إلينا بالخيرات، ويعطينا الفرصة تلو الفرصة لا لشيءٍ إلا لأنه رحيمٌ بعباده، يريد بنا اليُسْرَ والسعادة والهناء، ينظر إلينا سبحانه من فوق سبع سموات وهو مستوٍ على عرْشه، فيرانا غَرْقَى في الذنوب، فيسبغ علينا رحمتَه، ويَعْرِض علينا توبتَه؛ ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾
ومِن رحمته بنا سبحانه أنْ جعلَ لنا مواسمَ يفيض علينا فيها مِن وابل المغفرة ما لا يتخيَّله عقلُ مسلمٍ، ومن أعظم تلك الفرص إدراك شهر رمضان، تأمَّل كيف حفَّز النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه لاهْتبال هذه الفرصة العظيمة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشِّر أصحابه: (قد جاءَكم شهرُ رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامَه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغْلق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها، فقدْ حُرِمَ) رواه الإمام أحمد وصحيحه الألباني، إنها فرصة في طيَّاتها فرصٌ، تعالَوا عباد الله نستعرض بعضَ تلك الفرَص:
أولاً: عطاء ربَّاني لا حدود له جعله الله جزاءً للصائم؛ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ عمل ابن آدمَ له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف، قال الله: "إلاَّ الصيام، فهو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجْلي، ويدع الشراب مِن أجْلي، ويدع لذَّته من أجْلي ويدع زوجته من أجْلي، ولخلوفُ فم الصائم أطْيبُ عند الله من رِيح المسك، وللصائم فرحتان؛ فرحة حين يُفْطر، وفرحة عند لقاء ربِّه))؛ رواه الإمام أحمد وصحَّحه الألباني. قال القرطبي: معناه أنَّ الأعمال قد كشفتْ مقادير ثوابها للناس، وأنها تُضَاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلاَّ الصيام؛ فإنَّ الله يثيبُ عليه بغير تقدير.
وقال ابن حجر: وقوله: " لأنَّ الكريمَ إذا قال: أنا أتولَّى الإعطاء بنفسي، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه". ([2])
ثانياً: الفرح في الدنيا والآخرة؛ عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إلاَّ الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجْلي، للصائم فرحتان؛ فرحة عند فِطْره، وفرحة عند لقاء ربِّه، ولخلوف فيه أطيبُ عند الله من ريح المسك) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: قال العلماء: أمَّا فرحتُه عند لقاء ربِّه، فبما يراه من جزائه، وتذكُّر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأمَّا عند فِطْره، فسببُها تمامُ عبادته وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها. ([3])
ثالثاً: العِتْق من النار؛ عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لله عز وجل عند كلِّ فِطْرٍ عُتقاء، وذلك في كل ليلة)) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
رابعاً: إجابة الدعاء: تأمَّل أخي قولَ الله تعالى وهو يتحدَّث عن شهر رمضان وأحْكام الصيام: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
وخاصة عند الفطر وأوقات الإجابة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لله عُتقاء في كلِّ يوم وليلة، لكلِّ عبدٍ منهم دعوة مستجابة))؛ رواه الإمام أحمد، وصحَّحه الألباني.
خامساً: مَغْفرة الذنوب؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل، فقال: يا محمد، مَن أدركَ رمضان فماتَ فلم يُغفرْ له، فأُدخل النارَ فأبعده الله، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين ...) رواه الحاكم، وصحَّحه الألباني. يقول الإمام ابن القَيِّم: والله عزَّ وجل إذا أرادَ بعبده خيرًا، فَتَحَ له أبوابَ التوبة والندم، والانكسار والذل، والافتِقار والاستعانة به وصِدْق اللجوء إليه، ودوام التضرُّع والدعاء والتقرُّب إليه بما أمكنَ من الحسنات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لاشريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد :
عباد الله ومن فرص شهر رمضان:
سادساً: العناية ببيوت الله عز وجل المساجد التي قال عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا » رواه مسلم، ومدح الله عمارها بقوله {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } ([4]) قال السعدي رحمه الله: "فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الذين هم أهلها". ([5]) وقد أثنى على من يرتادها ويذكر الله فيها بقول جل وعلا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} ([6]) ومن أعظم الفرض في هذا الشهر المبارك عمارة مساجد الله بكثرة الصلاة والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف، قال الشيخ ابن باز رحمه الله:" وقد ذكر العلماء أنه لا بأس بأن ينوي الاعتكاف، ولو ساعة، واشترط بعضهم أن يكون يومًا كاملًا، ولكن ليس عليه دليل، المقصود: إذا نوى الاعتكاف في المسجد بعض الوقت فلا حرج في ذلك، ولا نعلم فيه بأسًا"
عباد الله ومن أعظم القربات في شهر رمضان عمارة المساجد ببنائها وتشيدها فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: « مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ » رواه أحمد وصححه الألباني ومن عمارتها العناية بنظافتها وطهارتها، وتطيبها فهي وظيفة الأنبياء والصالحين قال تعالى:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ([7])
عباد الله إن من استشعر أن المساجد بيوت الله أجلها وفرح ببنائها وسارع في عمارتها والعناية بها بذل ماله لذلك طيبة بها نفسه ومن الفرص المتاحة في ذلك العناية بالمساجد المجاورة لنا والقيام عليها ومن ذلك التبرع لبنائها وصيانتها عبر منصة إحسان.
سابعاً: العناية بالقرآن فرمضان شهر القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ([8]) فعلينا أن نعتني بتلاوته وتدارسه وتدبره، تكرار ختمه وأن يكون للعبد في رمضان ورد يومي وأن يقرأه بتدبر وتخشع، ويستمع له ويصلي به قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} ([9]) ومن ذلك حث الناس على تلاوته وخاصة الأهل والأقارب، ومن ذلك المساهمة في طباعته ونشره فإنها من الأثار التي يأتيك أجرها حياً وميتاً، اللهم وفقنا لصيام رمضان إيماناً واحتساباً واكتبنا في من العتقاء يا رب الأرض والسماء.
([1]) ـ [آل عمران : 102].
([2]) ـ "فتح الباري"، ( 4/ 108 ).
([3] ـ "شرح صحيح مسلم"، ( 4 /154 ).
([4]) ـ [التوبة: 18]
([5]) ـ تفسير السعدي (ص: 331)
([6]) ـ [النور: 36 ـــ 38]
([7]) ـ [البقرة: 125]
([8]) ـ [المزمل: 4]
([9]) ـ