فذهب لينوء ... (عن صلاة الجماعة)
سامي بن محمد العمر
فذهب لينوء (عن صلاة الجماعة) أما بعد: فقد رووا في الكتب أن بشراً مثلَنا كثيرَ الأشغال، كبيرَ الوظائف والأعمال، عظيمَ الهموم والأثقال، لا تكاد تخطئه فضيلةٌ ولا تفوته قربة، ولا يعرف الفراغُ إليه سبيلا، ولا الملهياتُ إليه طريقاً. وذات ليلة.. زارته حمىً لا تُشابه حمى الآخرين، فما زال يقاومها وتقاومه؛ حتى أنهكت جسده، وأرهقت بدنه، وأضعفت قواه. وسقط الجسد المتعب الذي كان يحاول إرضاء همّةٍ بداخله لا كالهمم، وعزيمةٍ لا كالعزائم. وسقط الجسد المتعب.. مناشداً الهمةَ أن تراه طريح الفراش فتهدأ، والعزيمةَ أن ترى ضعف قوته فتسكُن. ولكن هيهات.. كيف لحمىً زائرة، وأتعابٍ زائلة أن تمنع الروحَ من لذاتها، والنفسَ من متعتها؛ حيث القربُ من الله والفوزُ بعظيم هباته وواسعِ أفضاله ورفيعِ درجاته. فما أن تسمع الروح في ذاك الجسد المتعب نداءَ الصلاة حتى ينتفض الأسد محاولا النهوض للوضوء فيسقط من الإغماء، وحين يفيق لا يرى نفسه معذورة بذلك؛ فيكرر النهوض ليوقعه الإغماء مرة أخرى وثالثة. ويبقى بداخله ألم الفوات أشدَّ من ألم التعب، حتى إذا ما لاحت له فرصة، وخفّ من الحمى لهبُها بادر بالوضوء، وأمر اثنين من قرابته أن يحملاه إلى المسجد تخط رجلاه الأرض من الوجع لا يستطيع الثبات عليهما حتى يجلس في الصف. وكأني بأصحاب الهمم المتواضعة يقول قائلهم: أتحكي لنا قصة معذورٍ يُشدد على نفسه، ومريضٍ لا يقبل رخصة ربه؟ ولو أنصف هؤلاء لتساءلوا.. لم يفعل ذلك؟ وما علة هذه الهمة؟ وما سر تلك العزيمة؟ والجواب في أمرين: أولهما: أن العاقل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزمُ كلُّ الحزم في انتهازها، وسرعةِ اقتناصها؛ فكيف إذا كانت الفرصة تتعلق بأمر الفلاح الأول وعلامته الكبرى حيث يبدأ الفلاح به وينتهي إليه؛ قال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } ثم عدد أسباب الفلاح الأخرى ليختمها بقوله {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وثانيهما: أن النفوس النقية، والأرواح الرضية لا تتحمل سماع هذا الترهيب، وما بعده من الترغيب ثم تغفو مطمئنة!! {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} أما أصحاب الهمم المتواضعة والعزائم الضعيفة فتكفيهم أدنى شبهة ليعتذروا عن الصلاة في الجماعة ولو سمعوا النداء، ويقعدهم أدنى شغل ولو كانوا من جيران المساجد! "ومتى رأيت العقلَ يؤثر الفانيَ على الباقي فاعلم أنه قد مسخ. ومتى رأيت القلبَ قد ترحل عنه حب الله والاستعدادُ للقائه وحلَّ فيه حبُّ المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطمأنينةُ بها فاعلم أنه قد خُسِف به..... ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس بالله إلى الأنس بالخلق ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع غيره فاعلم أنك لا تصلح له. ومتى رأيته يستزيد غيرك وأنت لا تطلب، ويستدني سواك وأنت لا تقرُب... فاعلم أنه الحجاب والعذاب؛ فمزاج إيمانك منحرف عن الصحة ونبض هواك شديد الخفقان"([1]). الصلاة في الجماعة ليست عملاً هامشياً يؤخر في ذيل قائمة الأعمال، ولا تكليفاً جانبياً يقبل التأجيل أوِ الإهمال. الصلاة في الجماعة علامة الإيمان وإرضاء الرحمن، وميدان السباق، والبراءة من النفاق. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»([2]). نعم.. لقد لخصها لنا ابن مسعود رضي الله عنه من سيرة ذاك الرجل بأبي هو وأمي. بارك الله لي ولكم.. الخطبة الثانية أما بعد: فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: «ضعوا لي ماء في المخضب». قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء [أي: ينهض] فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال صلى الله عليه وسلم: «أصلى الناس؟» - وكرر ذلك ثلاث مرات -([3]) . ومن حديث الأسود، قال: كنا عند عائشة رضي الله عنها، فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيمَ لها، فقالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذن؛ قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»... فخرج أبو بكر فصلى فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خِفة، فخرج يُهادى بين رجلين، كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع([4]). فيا أيها المتقاعسون المفرطون هذا هو المشرّع عن ربه، المبلغ لأمته تعاليم دينه؛ ليس من المشددين على أنفسهم، ولا الرافضين رخصة ربهم. ولكنها حلاوة الإيمان ولذة اللقاء وطعم المناجاة وثواب الامتثال وانشراح الصدر وحطُّ الوزر التي كان يجدها هناك... حيث يُنادى بهن. فهلاّ اقتدينا لنُحصِّل تلك الفضائل... أم ستنفي هممنا الضعيفة ذلك أيضاً، وستغلبنا الشِقوة قائلة: إنما ذاك شيءٌ رووه في الكتب؟! اللهم ... ([1]) بدائع الفوائد (3/ 224) بتصرف يسير ([2]) صحيح مسلم (1/ 453) (654) ([3]) صحيح البخاري (1/ 138) (687) ومسلم (1/ 311) (418) ([4]) صحيح البخاري (1/ 133)(664)، ومسلم (1/ 313) (418)
المرفقات
1723144973_فذهب لينوء (عن صلاة الجماعة).docx
1723144973_فذهب لينوء (عن صلاة الجماعة).pdf