فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ 9 جمادى الثاني 1434 هـ

محمد بن مبارك الشرافي
1434/06/07 - 2013/04/17 16:29PM
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ 9 جمادى الثاني 1434 هـ

الْحَمْدُ للهِ حَمْدَاً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ , وَأَشْكُرُ لَهُ عَلَى جَزِيلِ إِنْعَامِهِ أَفْضَالِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ فِي فِعْلِهِ وَمَقَالِهِ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَآلِهِ , وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَلِّمْ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِالْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْطَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْكَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : هَذِهِ سُورَةٌ خَلَّدَ اللهُ فِيهَا قِصَّةً عَظِيمَةً لِحَادِثَةٍ مَهِيبَةٍ , ظَهَرَ فِيهَا حِمَايَةُ اللهِ لِبَيْتِهِ وَرَدُّهُ لِكَيْدِ أَعْدَائِهِ , وَكَبْتُهُ لِمَنْ تَجَرَّأَ عَلَى حُرُمَاتِهِ , وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصَاً لِبِعْثَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ , نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ إِخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ : إِنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْفِيلِ تَبْدَأُ – عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ - مِنْ بَعْدِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الأُخْدُودِ التِي ذَكَرَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ , وَذَلِكَ أَنَّ الذِي قَتَلَ أَصْحَابَ الأُخْدُودِ هُوَ الْمَلِكُ الْيَهُودِيُّ ذُو نُواسٍ ، وَكَانَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ نَصَارَى , فَقَتَلَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عِشْرِينَ أَلْفَاً ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ , يُقَالُ لَهُ دَوْسُ ذُو ثَعْلَبَانَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ ، فَسَلَكَ الرَّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ , فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَتَى قَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ , فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُواسٍ وَجُنُودِهِ , وَأَخْبَرَهُ بِمَا حَصَلَ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ عَلَى دِينِهِمْ .
فَقَالَ لَهُ : بَعُدَتْ بِلادُكَ مِنَّا ! وَلَكِنْ سَأَكْتُبُ لَكَ إِلَى مَلِكَ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى بِلادِكَ ... فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطَّلَبِ بِثَأْرِهِ .
فَقَدِمُ دَوْسٌ عَلَى النَّجَاشِيِّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ , فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ أَلْفَاً مِنَ الْحَبَشَةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَرْيَاط , وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الأَشْرَم فَرَكِبَ أَرْيَاطُ الْبَحْرَ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ وَمَعَهُ دَوْسٌ. فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ ذُو نُواسٍ سَارَ إِلَيْهِمْ فِي حِمْيَرَ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ , فَلَمَّا الْتَقَوْا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ وَأَصْحَابُهُ , فَلَمَّا رَأَى ذُو نُواسٍ مَا نَزَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ وَجَّهَ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَدَخَلَ فِيهِ فَخَاضَ بِهِ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ حَتَّى أَفْضَى بِهِ إِلَى غَمْرَةٍ ، فَأَدْخَلَهُ فِيهَا فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ .
وَدَخَلَ أَرْيَاطُ الْيَمَنَ وَمَلَكَهَا . فَأَقَامَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ , فِي سُلْطَانِهِ ذَلِكَ ثُمَّ نَازَعَهُ أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيُّ , وَكَانَ فِي جُنْدِهِ , حَتَّى تَفَرَّقَتِ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمَا , فَانْحَازَ إِلَى كُلِّ مِنْهِمُا طَائِفَةٌ مِنْهِمْ , ثُمَّ سَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى الآخَرَ .
فَلَمَّا تَقَارَبَ النَّاسُ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إِلَى أَرْيَاط : إِنَّكَ لَنْ تَصْنَعَ بِأَنْ تَلْقَى الْحَبَشَةُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تُفْنِيَهَا !!! فَابْرُزْ لِي وَأَبْرُزُ لَكَ ، فَأَيُّنَا أَصَابَ صَاحِبَهُ انْصَرَفَ إِلَيْهِ جُنْدُهُ ! فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْيَاطُ : أَنْصَفْتَ .
فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبْرَهَةَ ، وَكَانَ رَجُلاً قَصِيرَاً ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ ! وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْيَاطُ , وَكَانَ رَجُلاً جَمِيلاً عَظِيمَاً طَوِيلاً وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ , وَخَلْفَ أَبْرَهَةَ غُلامٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ : عَتُودَةُ , يَمْنَعُ ظَهْرَهُ .
فَرَفَعَ أَرْيَاطُ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ يُرِيدُ يَافُوخَةَ رَأْسِهِ , فَوَقَعَتِ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ فَشَرَمَتْ حَاجِبَهُ وَعَيْنَهُ وَأَنْفَهُ وَشَفَتَهُ , فَبِذَلِكَ سُمِّيَ أَبْرَهَةَ الأَشْرَم .
وَحَمَل عَتُودَةُ غُلامُ أَبْرَهَةَ عَلَى أَرْيَاط مِنْ الخَلْفِ فَقَتَلَهُ , وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطَ إِلَى أَبْرَهَةَ , فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ غَضِبَ غَضَبَاً شَدِيدَاً عَلَى أَبْرَهَةَ وَقَالَ : عَدَا عَلَى أَمِيرِي فَقَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِي ! ثُمَّ حَلَفَ لا يَدَعُ أَبْرَهَةَ حَتَّى يَطَأَ بِلادَهُ وَيَجُزَّ نَاصِيَتَهُ !!!
فَلَمَّا عَلِمَ أَبْرَهَةُ بِمَقَالِهِ بَادَرَ وَحَلَقَ رَأْسَهُ نَفْسِهِ , وَمَلأَ جِرَابَاً مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ , ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ! إِنَّمَا كَانَ أَرْيَاطُ عَبْدَكَ , وَأَنْا عَبْدُكَ فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِكَ , وَكُلٌ طَاعَتَهُ لَكَ , إِلَّا أَنِّي كُنْتَ أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ وَأَضْبَطَ لَهَا وَأَسْوَسَ مِنْهُ , وَقَدْ حَلَقْتُ رَأْسِي كُلِّهِ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ الْمَلِكِ , وَبَعَثْتُ إِلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي , لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَبَرَّ قَسَمُهُ فِي .
فَلَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ رَضِيَ عَنْهُ وَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَنْ اثبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي , فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ .
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ بَنَي بِصَنْعَاءَ الْقُلَّيْسَ , كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الأَرْضِ , وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ : إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مُثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ , وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ .
فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ النَّاسُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ إِلَى النَّجَاشِيِّ غَضِبَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ , فَخَرَجَ هَذَا حَتَّى أَتَّى الْقُلَّيْسَ فَقَعَدَ فِيهِ ـ أَيْ أَحْدَثَ ـ حَيْثُ لا يَرَاهُ أَحَدٌ ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ , وَأُخْبِرَ أَبْرَهَةُ بِذَلِكَ . فَقَالَ : مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ : لَهُ صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الذِي تَحُجُّهُ الْعَرَبُ بِمَكَّةَ !
فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ , وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ ! ثُمَّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيَلَةِ , يَقْدُمُهَا فِيلٌ كَبِيرٌ اسْمُهُ مَحْمُود .
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ أَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ , وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقَّاً عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا بِأَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ ! وَكُلَّمَا مَرَّ بِقَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ العَرَبِ خَرَجُوا لَهُ فَقَاتَلُوهُ , وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا مُقَاوَمَتَهُ لِقُوَّةِ جَيْشِهِ وَكَثْرَتِه , فَتَقَدَّمَ حَتَى اقْتَرَبَ مِنْ مَكَّةَ , وَنَزَلَ مَكَاناً قَرِيباً مِنْهَا , وَبَعَثَ أَحَدَ قُوَّادِهِ عَلَى خَيْلٍ لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ , فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ أَهْلِ تُهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ .
وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ , وَهُوَ يَوْمِئِذٍ كَبِيرُ قَرَيْشٍ وَسَيَّدُهَا .
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ بَعَثَ رَجُلاً اسْمُهُ حُنَاطَةُ الْحِمْيَرِيُّ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ لَهُ : سَلْ عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهِمْ ، ثُمَّ قُلْ لَهُ : إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ إِنَّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ , فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا لَنَا دُونَهُ بِحَرْبٍ فَلا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرْدِ حَرْبِي فَائْتِنِي بِهِ , فَلَمَّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكَّةَ سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا فَقِيلَ لَهُ : عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِم !
فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ , فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : وَاللهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَالَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ ! هَذَا بَيْتُ اللهِ الْحَرَامِ ! وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ , فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ حَرَمُهُ وَبَيْتُهُ , وَإِنْ يُخْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَوَاللهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ !
فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ : فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ؟
فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ , حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ . وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ وَأَجْمَلَهُمْ , فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ , وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ .
فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ وَأْجَلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَانِبِهِ , ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ مَا حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ : حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي !!!
فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ، قَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ : َلقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ !!! ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي !!! أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ , وَتَتْرُكُ بَيْتاً هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ لا تُكِلِّمُنِي فِيهِ ؟
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : إِنِّي أَنَا رَبُّ الإِبِلِ ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبّاً سَيَمْنَعُهُ ! فَقَالَ : مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي ! قَالَ : أَنْتَ وَذَاكَ !
فَرَدَّ عَلَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ , فَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ , وَانْطَلَقَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ , فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ , وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَالتَّحَرُّزِ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ , خَوْفَاً عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ !!!
ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ . ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ يَتَحَرَّزُونَ فِيهَا وَيَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ !
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ , وَهَيَّأَ فِيلَهُ وَعَبَّى جَيْشَهُ ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا وَصَلُوا مَكَانَاً اسْمُهُ الْمُغَمَّسُ وَقَفَ كَبِيرُ الْفِيَلَةِ مَحْمُودٌ فَوَقَفَتْ مَعَهُ بَقِيَّةُ الْفِيَلَةِ فَمَا تَحَرَّكَتْ .
فَأَرَادُوا الْفِيلَ مَحْمُودَاً أَنْ يَسِيرَ فَمَا فَعَلَ ! فَحَاوَلُوا فِيهِ فَمَا قَدِرُوا , فَضَرَبُوهُ لِيَتَحَرَّكَ فَأَبَى ! فَوَجَّهُوهُ رَاجِعَاً إِلَى الْيَمَنِ , فَقَامَ يُهَرْوِلُ ! وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ , فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ , فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ , وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ !
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ فِي حَيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ : إِذْ أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ طَيْرَاً مِنَ الْبَحْرِ ! أَمْثَالَ طُيُورِ الْخَطَاطِيفِ , مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا : حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ , وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ , أَمْثَالُ الْحُمُّصِ وَالْعَدَسِ , لا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدَاً إِلا هَلَكَ !
فَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ التِي مِنْهَا جاَؤُوا , وَصَارُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَيَهْلَكُونَ بِكُلَّ مَهْلَكٍ !
وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً , حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ ! فَهَلَكَ هُنَاكَ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : هَكَذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ الْعَجِيبَةُ وَالآيَةُ الْكَبِيرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ , فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يُعَدِّدُ اللهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ !!!
وَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نُصْرَةً لِقُرَيْشٍ عَلَى النَّصَارَى الذِينَ هُمُ الْحَبَشَةُ : فَإِنَّ الْحَبَشَةَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا أَقْرَبَ لَهُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ , وَإِنَّمَا كَانَ النَّصْرُ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ , وَإِرْهَاصَاً وَتَوْطِئَةً لِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَنْصُرَ دِينَهُ وَيُعْلِي كَلِمَتَهُ وَيَحْفَظَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَيْدِ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ , اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنَا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ , اللَّهُمَّ احْفَظْ إِخْوَانَنَا فِي الشَّامِ وَكُنْ لَهُمْ عَوْنَاً وَنَصِيرَاً , اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ مِنَ الْبَعْثِيِّينَ وَالنُّصَيْرِيِّينَ وَالرَّافِضَةِ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ , اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلاةَ أَمْرِنَا وَأَصْلِحْ بِطَانَتَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ يَا رَبَّ الْعَالِمَينَ , اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ , والحَمَدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ .
المرفقات

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ 9 جمادى الثاني 1434 هـ.doc

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ 9 جمادى الثاني 1434 هـ.doc

المشاهدات 2484 | التعليقات 2

جزاك ربي الجنة وزااادك الله من فضله..


جزاك الله خيرا