فجاءة النقمة

سامي بن محمد العمر
1441/12/23 - 2020/08/13 12:47PM

فجاءة النقمة

أما بعد:

في كل مراحل حياته: "طفلاً وليداً، ودارجاً فَطيماً، وصبياً ناشئاً، ويافعاً مراهقاً، وفتى مجتمعاً، وشاباً مكتهلاً"، تراه متقلباً في نعم الله شاعراً ببعضها وغير مستشعر لأكثرها.

وما شعر به الناس من نعم الله هم فيه بين قلة شاكرة، وكثرة باطرة، والله رؤوف رحيم لا يعاجل بالعقوبة والتأديب، حتى يرسل النذر بالتنبيه والتأنيب.

ومن نُذر الله تعالى: ما يُصيب الناسَ من النكبات، والبلايا المهلكات، لتكون لغيرهم دروساً وعظات، وآياتٍ بينات.

{أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67)}

لقد كان هذا امتناناً على قريش إذ كانوا "في بحبوحة من الأمن، وكان غيرهم من القبائل حول مكة وما بعُدَ منها؛ يغزو بعضهم بعضا ويتغاورون ويتناهبون، وأهل مكة آمنون لا يعدو عليهم أحد مع قلتهم"([1]).

وكان الواجب عليهم أن" يَحْمَدُوا ربهم على هذا الأمن التام، الذي ليس فيه غيرهم، وعلى الرزق الكثير، الذي يجيء إليهم من كل مكان، من الثمرات والأطعمة والبضائع، ما به يرتزقون ويتوسعون، ويَتَّبِعُوا هذا الرسول الكريم، ليتم لهم الأمن والرغد "([2]).

لكنه البطر... الذي يعصف بالنعم، ويستدعي النقم، ويحارب الشكر ويجلب الكفر؛ ويبدل بعد الأمن خوفاً، وبعد العز ذُلاً، وبعد الغنى فقراً..

فلا عجب أن يقول أهله هذه المقالة:

{وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57)}

"أفمن أمَّنهم وهم عصاة، يدع الناسَ يتخطفونهم وهم تقاة؟!

«وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»"

لا يعلمون أن المهالك إنما تتقى حقاً، والتخطف إنما يؤمن صدقاً: إذا سلم الناس من علة الإهلاك، والداء الفتاك...

{وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58)}

إنه بطر النعمة وإهمال شكر معطيها، واستعمالها فيما يغضب مسديها.

روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك).

نعم، هذا نبينا صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستعاذة بالله من آثار البطر وقلة الشكر، فيا فوز من أدام الله عليه نعمته، وأبقى له عافيته، وسلمه من فجأة النقمة، وأمنه من جميع السّخَط.

ويالها من مصائب أربع؛ فيها فساد الدنيا والآخرة، إذ لن ينجو العبد إذا ذهبت نعم الله منه، وتحولت عافيته عنه، وأصابته نقمة الله فجأة، وحلّ به سَخَطُه بغتة؟ فلا فرصة إذ ذاك لتوبة، ولا مهلة لأوبة.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 96 - 99]

 الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإلى كل من طال عليه أمد الجهالة، واستولت عليه أسباب الضلالة.

إلى كل من تمكنت منه الغفلة التمكن التام، حتى أصبحت معيشته في الحياة معيشة الأنعام.

الدنيا مليئة بالأحداث والعبر، والله لا يعذب إلى بعد إرسال النذر، وأنتم ههنا آمنون، والناس من حولكم يُتخطفون ويهلكون، حروب ودمار، حرائق وانفجار، أموات وأضرار.

مواعظ يجب أن لا تمر علينا كسحابة صيف أو خيال طيف.

فمن ذا يتخيل في لحظة أن يفقد نفسه أو والده وولده.

ومن ذا يتخيل في لحظة أن يفقد مسكنه، أو يخسر تجارته، أو يسلب صحته..

ومن ذا يتخيل في لحظة أن تزول النعم، وتتبدل العافية، ويذهب الأمن، ويحل الدمار، وتكثر الأضرار؟

إنها الفجاءة التي تجعل الحليم حيران، والعاقل كالسكران.. إذ لا منذراتٍ تنذر، ولا مؤذناتٍ تؤذن وتشعر.

{وكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}

فألله الله بدوام الحمد والشكر، والإقبال على الله بالطاعة والتوبة والذكر؛ فما نحن إلا خلق من خلقه؛ تجري علينا أوامره ومقاديره..

فإن لطف بنا فجعل غيرنا عبرة لنا؛ فلا يبعد مع بطرنا أن يجعلنا عبرة لغيرنا..

 اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا بِحِفْظِكَ، وَأَنْ تَكْلَأَنَا بِرِعَايَتِكَ، وَأَنْ تَدْفَعَ عَنَّا الغَلَاء َوَالوَبَاءَ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالمِحَنَ وَسُوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

 

([1]) التحرير والتنوير (21/ 34)

([2]) تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 621)بتصرف يسير

المشاهدات 1294 | التعليقات 0