فِتْنِةٌ خَشِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ
مبارك العشوان 1
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ، وَنَعُوْذُ بِهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } التغابن 15
المَالُ - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - مِنْ أَشَدِّ الفِتَنِ وَأَخْطَرِهَا؛ وَقَدْ خَشِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ هَذِهِ الفِتْنَةَ؛ فَقَالَ: ( فَوَ اللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: ( وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ ).
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: ( إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا...) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ... ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الفِتْنَةُ بِالمَالِ مِنْ أَشَدِّ الفِتَنِ؛ هُوَ فِتْنَةٌ فِي حُبِّهِ وَشِدَّةِ تَعَلُّقِ القُلُوبِ بِهِ وَالحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلَى جَمْعِهِ؛ وَ: ( لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ...) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
المَالُ فِتْنَةٌ فِي كَسْبِهِ، وَفِتْنَةٌ فِي إِنْفَاقِهِ، وَسَيُسْأَلُ كُلُّ عَبْدٍ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفـَقَهُ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ خَطَرَ هَذِهِ الفِتْنَةِ؛ مَا تَرَاهُ مِنْ أحْوَالِ النَّاسِ اليَومَ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِمْ فِيْهَا حَتَّى إِنَّكَ تَجِدُ فِيْهِمُ الصَّالِحَ التَّقِيَّ المُتَوَرِّعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ؛ فَإِذَا عَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةُ المَالِ سَقَطَ فِيْهَا؛ يَقَعُ فِي المُشْتَبِهِ مِنَ المُعَامَلَاتِ؛ وَالمُخْتَلِطِ مِنَ المُسَاهَمَاتِ؛ ثُمَّ يَرْتَعُ فِي صَرِيْحِ المُحَرَّمَاتِ.
تَجِدُ فِيْهِمْ مَنْ يُفَرِّطُ فِي عَمَلِهِ وَيَتَسَاهَلُ فِي دَوَامِهِ وَلَا يَقْبَلُ أنْ يُحْسَمَ رِيالٌ واحِدٌ مِنْ مُرَتَّبِهِ.
تَجِدُ مَنْ يَتَعَامَلُ بالرِّبَا وَلَا يُبَالِي، وَيَأكُلُ أَمْوَالَ اليَتَامَى وَلَا يُبَالِي، يَرْشِي وَيَرْتَشِي وَيَغُشُ وَيَسْرِقُ وَيَتَسَوَّلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا يُبَالِي، يُمَاطِلُ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، وَالْأُجَرَاءَ أُجُورَهُمْ ويُؤَخِّرُ السَّدَادَ مَعَ استِطَاعَتِهِ.
تَجِدُ مَنْ يُتَاجِرُ فِي المُحَرَّمَاتِ وَلَا يُبَالِي؛ هَمُّهُ أَنْ يَجْمَعَ المَالَ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ؛ أَعَاذَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذِهِ الحَالِ؛ حَالِ مَنْ قَالَ عَنْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلَالِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ فِتْنَةِ المَالِ: التَّفَاخُرُ وَالتَّعَالِي عَلَى النَّاسِ بِهِ؛ تَرَى صَاحِبَ الخُلُقِ والتَّوَاضُعِ، فَإِذَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ تَغَيَّرَتْ أخْلَاقُهُ، وَتَغَيَّرَتْ عَلَى القَرِيْبِ وَالبَعِيْدِ مُعَامَلَتُهُ.
وَمِنْ فِتْنَةِ المَالِ: البُخْلُ بِهِ، أَوِ الإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيْرُ وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌ عَنْهُ: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا }الإسراء 29
البُخْلُ يَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ الحُقُوقِ الوَاجِبَةِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ؛ وَقَدْ جَاءَ الوَعِيْدُ عَلَى ذَلِكَ: {... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } التوبة 34 – 35
وأمَّا الإِسْرَافُ فَحَمَلَ أَهْلَهُ عَلَى الأَشَرِ وَالبَطَرِ وَالعَبَثِ بِالأَمْوَالِ؛ وَالاسْتِهَانَةِ بِالنِّعَمِ؛ فَعَرَّضُوا أنْفُسَهُمْ وَمُجْتَمَعَهُمْ لِلْعِقَابِ وَزَوَالِ النِّعَمِ: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } إبراهيم 7
وَمِنْ فِتْنَةِ المَالِ: أَنَّهُ قَدْ يُلْهِي صَاحِبَهُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَيُشْغِلَهُ عَنْ طَاعَتِهِ؛ وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ عِبَادَهُ هَذَا فَقالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } المنافقون 9
نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخُسْرَانِ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى الفَوزَ بِالجِنَانِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ الحَلَالِ أَمْرٌ مَحْمُودٌ شْرْعًا وَطَبْعًا، قَالَ تَعَالَى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }الجمعة 10
فَاطْلُبُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - الرِّزْقَ فِيمَا أَبَاحَ اللهُ لَكُمْ، وَابْتَعِدُوا كُلَّ البُعْدِ عمَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِي الحَلَالِ غُنْيَةٌ عَنِ الحَرَامِ؛ اتَّقُوا الشُّبُهَاتِ تَسْلَمُوا عَلَى دِيْنِكُمْ وَأَعْرَاضِكُمْ؛ اِسْألُوا عَنِ المُعَامَلَاتِ، فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِجَارَةِ وَالقُرُوضِ وَالمُدَايَنَاتِ وَالأسْهُمِ، اعْرِفُوا مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ قَبْلَ الإِقْدَامِ عَلَيْهَا، لَا يَحْمِلَنَّكُمْ حُبُّ المَالِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِالتَّعامُلِ المُحَرَّمِ، أَوْ تَمْنَعُوا حُقُوقَهُ.
اِعْلَمُوا أَنَّ قَلِيْلًا يُغْنِيْ، خَيرٌ مِنْ كَثِيْرٍ يُلْهِي، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ والْآخِرَةُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ.) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. يَقُولُ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ رَحِمَهُ اللهُ: مُصِيبَتَانِ لَمْ يَسمَعِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِمِثْلِهِمَا لِلْعَبْدِ فِي مَالِهِ عِنْدَ المَوتِ، قِيْلَ: وَمَا هُمَا؟ قَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّهُ، وَيُسْأَلُ عَنْهُ كُلُّهُ.
عِبَادَ اللهِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ غَنِيًّا فَلْيَنْظُرْ فِي أَحْوَالِ صُلَحَاءِ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ وَالتَّابِعِيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلْيَلْزَمْ طَرِيْقَهُمْ، وَمَنْ كَانَ فَقِيْرًا فَلْيَنْظُرْ فِي أَحْوَالِ فُقَرَائِهِمْ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
فِتْنِةٌ-خَشِيَهَا-النَّبِيُّ-صَلَّ
فِتْنِةٌ-خَشِيَهَا-النَّبِيُّ-صَلَّ