فتنة المال والتحذير من إضاعة المال العام.

عبد الله بن علي الطريف
1444/05/14 - 2022/12/08 14:34PM

فتنة المال والتحذير من إضاعة المال العام. 1444/5/15هـ

أيها الإخوة: للمال في الإسلام قيمةٌ كبيرة، ومكانةٌ عالية؛ ذلك أن الحياة تتوقف عليه في أصلِها وكمالِها، وسعادِتها وعزِها من علمٍ وصحةٍ وقوةٍ، واتساعِ عمرانٍ وسلطان؛ قال الله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:5]؛ قال ابن كثير: "قِيَامًا: أَيْ: تَقُومُ بِهَا مَعَايِشُهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا".

وقد كَثُرَ ذكرُ "المال" في القرآن الكريم فقد ذكره الله في ستٍ وثمانين موضعاً، مفردًا وجمعًا، ومُعرّفًا ومُنكّرًا، ومُضافًا وغير مضاف، ووُرُدُ ذِكرِه بهذه الكثرة في كتابِ الله دليلٌ على نظرةِ الإسلامِ الخاصةِ للمالِ واهتمامه الشديدِ به؛ فهو قِوامُ الحياةِ، وأهمُّ عنصرٍ في تعميرِ الأرضِ؛ فبه يستعينُ الإنسانُ على عبادِةِ الله عزَّ وجلَّ، والبقاءِ في هذه الدنيا.

أيها الإخوة: والمال أعظم شيء ترغبه النفوس وتميل إليه وتحرص على طلبه.. قال الله تعالى واصفاً حب الانسان للمال: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20] أَيْ حُبًّا قَوِيًّا شَّدِيداً مُفْرِطًا، وهذا مَحَلُّ ذَمِّ حُبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ إِفْرَادَ حُبِّهِ يُوقِعُ فِي الْحِرْصِ عَلَى اكْتِسَابِهِ بِالْوَسَائِلِ غَيْرِ الْحَقِّ كَالْغَصْبِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالسَّرِقَةِ وَأَكَلِ الْأَمَانَاتِ.. وقال رسولُ الله ﷺ عن تلك الرغبة والميل فيما رواه حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى"(رواه البخاري ومسلم). أي المال كالفاكهة الخضرة في المنظر الحلوة في المذاق ولذلك ترغبه النفوس وتميل إليه وتحرص عليه، ومعنى (بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ) بغير إلحاح في السؤال ولا طمع ولا حرص ولا إكراه أو إحراج للمعطي. (بُورِكَ لَهُ فِيهِ) كثر ونما وكان رزقا حلالا يشعر بلذته.

وخاف رسول الله ﷺ على المسلمين فتنة المال، فَقَالَ: "إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَإِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ، فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ القِيَامَةِ" رواه البخاري ومسلم.

ويفتتن ابن آدم بسبب بالمال فتنة عظيمة؛ فيفتن في اكتسابه وفي إمساكه وفي إنفاقه، وقد أكد ربنا هذه الفتنة فقال عنها: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال:28]، أَيْ: اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانُ مِنْهُ لَكُمْ؛ إِذْ أَعْطَاكُمُوهَا لِيَعْلَمَ أَتَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا وَتُطِيعُونَهُ فِيهَا، أَوْ تَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْهُ، وَتَعْتَاضُونَ بِهَا مِنْهُ؟ ثم ذكر الله تعالى طريق السلامة من تلك الفتنة فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن:17،16].

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ" رواه الترمذي، وصححه الألباني.

أيها الإخوة: يؤخذ من هذا الحديث وجوبُ الاهتمام في سلامة المكسب.. وجواز المصرف فكلا التصرفين مسئولٌ عنهما العاقل فمَن أراد النجاة يوم المعاد فليُعدَّ لهذه السؤال جوابًا، وللجواب صوباً.. وحتى تنجو، سَلْ نفسك عن كل ريال في جيبك، أو في حسابك، أو في ملكك، من أين اكتسبته وفيما أنفقته، لأن هذا سؤالٌ سيوجّه إليك بين يدي ملكٍ حقٍ عليمٍ حسيبٍ رقيبٍ لا تخفى عليه خافية؛ فهو القائل سبحانه وبحمده: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47].

أيها الإخوة: ومن فتنة المال ألا يبالي الإنسانُ من أين اكتسبه، فتجده لاهثًا في اكتسابه وتحصيله، ساعيًا في الاستكثار منه دون تفكير في حلال أو حرام، وإنه لمن البلاء العظيم أن تكون من أولئك الذين قال فيهم النَّبِيُّ ﷺ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ"(رواه البخاري)؛ يعني بأيّ سبب ومن أي طريق.

أيها الإخوة: ومن وسائل جمع المال المحرمة التي تورط بها بعض الناس عبر الأزمان، وفي زمننا كذلك، التعدي على المال العام، سواء بالاستيلاء عليه بغير وجه حق، أو بتبديده والتفريط فيه، أو غيرها من صور التعدي.. ونقصد بالمال العام: مال الدولة الذي تملكه وتستخدمه للمنفعة العامة وتنفقه في ضوء الشرع والنظام.. سواء كان ذلك المال نقودًا، أو عقارًا، أو ثروات، أو مرافق وخدمات، أو طُرقًا ومستشفيات، وكل شيء ذا قيمة مما تتولاه الدولة فهو مال عام..

ولقد ضل بعض الناس الطريق فلم يقم لهذا المال حُرمة، ولم يتحرج في الاستكثار منه فيأخذُ منه ما استطاع، ويعُده كسباً حلالاً، وحقاً محضاً، ويقول: من سبق إليه فهو أولى به.

وقد أخطأ والله وأبعد النجعة من ظن هذا الظن.! نقول له: إن هذا المالَ يشترك في الاستفادة منه جميع الشعب حسب ما يضعه ولي الأمر من تنظيم مبني على الشرع، والتعدي عليه إثم عظيم.. قال الله تعالى محذراً من هذا الفعل: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [آل عمران:161]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوماً: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: "وَمَا لَكَ؟"، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى". رواه مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ. والمخيط الإبرة.

ويؤخذ من هذا الحديث: تحريم الأخذ من المال العام، ولا فرق بين قليل المال وكثيره، والآخذُ غالٌ، والغلول: كل مال أُخذ من المال العام من غير حق، سواء كان ذلك من صاحب الولاية عليه من المسئولين، أو كان ذلك مستفيدًا من هذه المرافق أو من هذه الأموال، وسماه النبي ﷺ غلولاً؛ لأنه يغُلُ يدَ صاحبِه كالأسير الذي يُغل بالحديد. وسَمَى ما أخذَه غلولاً لأنه يشبه الغلول من الغنيمة في فعله، أو وباله يوم القيامة؛ لأنه يأتي بما كتم يوم القيامة فضيحةً وتعذيبًا له، وهذا لتنبيه العاملين بالأعمال الحكومية على الأمانة وتحذيرهم من الخيانة ولو في أتفه المبالغ..

والغلول كبيرة من كبائر الذنوب العظيمة، يُبْطلُ أجرَ الجهاد، ويُذْهِبُ أجر الشهادة، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "كَلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ". رواه مسلم. فكل ريال أو قرش أو شبر من أرض أو غيره يستولي عليه من استُأمِن على المال العام بغير حق؛ سيأتي به يوم القيامة يشتعلُ عليه نارًا، فأقلل أو استكثر؛ فإن المال العام شأنه خطير.

اللهم قنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا الاستقامة على ما تحب وترضى، اللهم يسّر لنا حلالاً طيبًا تغنينا به عمن سواك، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أما بعد: أيها الإخوة اتقوا حق التقوى، وراقبوه جل في علاه في جميع أحوالكم وأعمالكم وأخذكم وعطائكم، واعلموا أنه لا فرق في الحرام بين القليل والكثير والجليل والصغير، واعلموا أن من صورِ تحريم الأموال العامة استغلال الوظيفة والمنصب في المصالح الخاصة، أو الاستفادة من الخدمات المتاحة من غير استحقاق كذلك أخذ الرشوة أو البخشيش على أداء الأعمال الواجبة.

ومن الأخطاء التي يغفل عنها بعض الموظفين: التهاون بالدوام الرسمي سواء بالخروج لغير حاجة، أو بإضاعة وقت العمل بالقيل والقال، والأحاديث الجانبية، وعدم إنجاز المهام الوظيفة، فالموظف أجير خلال ساعات دوامه، عليه أن يستثمرها في أداء الواجبات وتطوير العمل وقضاء مصالح الناس، وأداء حقوق المراجعين بنصح وإخلاص.

أخي الموظف: أدعوك إلى محاسبة نفسك، ومراجعة يومك الوظيفي، كم من الوقت صرفته في أداء المهام الوظيفة، وكم من الوقت أهدرته في أحاديث جانبية مع الزملاء، وكم من الوقت صرفته بمطالعة الجوال ومشاهدة ما فيه، وكم من الوقت أمضيته بإحضار أولادك من المدارس، وكم من الوقت أضعته متنقلاً بين الزملاء.. فقط حاول حصر أعمال يومٍ واحد ثم انظر نسبة ما أهدرته من وقت لساعات الدوام، واحكم أنت على نفسك هل راتبك حلال كله أم فيه حرام، وما مقداره، وكيفية التخلُّص منه، في ساعة السعة قبل أن تنصب الموازين ويقضي السميع العليم بين العباد؛ قال الله على لسان لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16].

أخي الموظف المبارك: لو أحضرت عاملاً بالأجر اليومي ليعمل عندك؛ فبدأ يتحدث مع العمال ويشغلهم وينظر في جواله جلّ الوقت ويجلس للأكل وقتاً طويلاً، ثم ذهب لإحضار أولاده من المدارس.. فماذا تفعل!؟ هل تراه يستحق أجرته كاملة؟

وبعد أيها الإخوة: لنكن جميعاً حراساً على المال العام سواء من جور أنفسنا أو من الآخرين وحري بنا أن نبلغ عن كل واقعة فساد نعلمها للجهات المسئولة فإن هذا من التعاون على البر والتقوى..

اللهم إنا نسألك كسب الحلال، ونعوذ بك من سيئ الفعال.. وصلوا وسلموا على النبي كريم الخصال...

المشاهدات 3928 | التعليقات 0