فتنة المال
إبراهيم بن سلطان العريفان
1436/05/22 - 2015/03/13 08:33AM
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، لقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، ورضي الله عن أصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
إخوة الإيمان والعقيدة ... ما زال الحديث حول سورة الكهف .. تلك السورة العظيمة – وكل سور القرآن عظيمة – هذه السورة التي بيَّن الله فيها الفتن عظيمة وسبل النجاة منها.. وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن الفتنة في الدين بذكر قصة أصحاب الكهف.
واليوم يكون الحديث عن فتنة أخرى ألا وهي فتنة المال، والتي ضرب الله لنا في سورة الكهف قصة صاحب الجنتين. قصة الذي أعطاه الله عز وجل من النعم فأطغته هذه النعم، كما قال عز وجل ( كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) فطبيعة الإنسان -إلا من رحم الله- أنه يطغى أن رآه استغنى.
هذه قصة رجلين جعل الله عز وجل لأحدهما من فضله ونعمته ( جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) فوصف الله عز وجل البستانين بأنهما جنتان، لأنه كثير الفروع والأصول والأوراق، تدل على أنهما كانتا في غاية الجمال مما يرجوه العبد من جنة في الدنيا، فكانتا جنتين ولم تكونا جنة واحدة، وكانتا من أعناب محفوفة بنخل، وجعل الله عز وجل بين شجر الأعناب وبين النخل زرعاً.
( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) فهي كانت تؤتي أكلها كاملاً، لم ينقص منه شيء، وهذه علامة على كثرة ثمرها وكثرة حصادها ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) نهر يشق وسطها، وهذا يدل على أن سقيها كان بدون كلفة وبدون مشقة شديدة، فيسر الله عز وجل لها الري، ويسر الله عز وجل لهذا الري من كل أنواع الخير.
( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) دخل الجنتين في وقت احتملت الأشجار بالثمار فقال لصاحبه وهو يحاوره ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) تعزز بالقيم الزائفة، تعزز بالمال وبالشهرة وبالجاه وبالأتباع.
( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) الذي يظلم إنما يظلم نفسه ... الذي يكفر بالله عز وجل والذي لا يشكر الله عز وجل والذي لا يجتهد في طاعة الله عز وجل إنما يظلم بذلك نفسه، فهذا الرجل دخل جنته وهو ظالم لنفسه ورأى استمرار الملك والسلطان فترة طويلة (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) يظن أن الدنيا تدوم له. فهو اطمأن إلى الدنيا وركن إليها، وركن إلى ظل زائل وعرض حائل. ثم أتبع ذلك بأنه كفر بالآخرة، حيث قال ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا ) فاطمئنانه وركونه إلى الدنيا جعله يكفر بالآخرة، وهو مع كفره يظن أنه لو كانت هناك قيامة فسوف يجد خيراً منها منقلباً ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) هذا شأن كثير من الأغنياء، يظنون أن فيهم خاصية، وأنهم يستحقون هذا التكريم، ويستحقون هذا المال في الدنيا، ويستحقون أن يكونوا أرفع من الناس وأعلى منهم في الدنيا، وكذلك في الآخرة .
ذكره المؤمن الناصح ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ) ذكره بأصله وأصله أبيه آدم (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) وأنه كان نطفة .. كان ماءً مهيناً تستقذره النفوس وتأنف منه ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) فلو تفكر الإنسان في أصله لما تكبر على الله عز وجل ولما تعالى على عباد الله عز وجل.
والمؤمن الحق لا يتقوَّل بهذه المقولة، وإنما يعتز بإيمانه ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ).
ثم أن المؤمن نبه صاحب الجنتين المغرور على الواجب عليه فقال ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ) هذا هو الواجب على العبد إذا أعجبه شيء، قال صلى الله عليه وسلم ( إذا رأى العبد المسلم شيئاً يعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره)؛ لأن العبد قد يحسد نفسه وقد يحسد ماله وقد يحسد أولاده.
فينبغي للعبد أن ينظر إلى من دونه في الدنيا فيعرف نعمة الله عز وجل عليه، ويشكر نعمة الله عز وجل عليه، وهذا ما تذكره به الرجل المؤمن ( إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ) والمؤمن عنده بصيرة فكأنه ينظر فيرى الآخرة، قال ( فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ) فالله عز وجل يمتحن الأغنياء بالفقراء ويمتحن الفقراء بالأغنياء، والمال كله ملك لله عز وجل ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ).
عباد الله ... إن العبد الذي لا يشكر نعمة الله عز وجل عليه فهو يعرِّض نفسه بزوال هذا النعيم العاجل، وبخراب الجنة، وأن يزول ملكه وسلطانه في الدنيا ( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) أي: ناراً من السماء ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) فهذا النهر المرتفع على الأرض الذي يسقي أرضك وزرعك قد يذهب، فيهلك الشجر من قلة الماء (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ).
لقد تحقق ما توقعه الرجل المؤمن، عند ذلك تذكر نصيحة المؤمن له، وكيف أنه قابل نعمة الله عز وجل بالكفر، بدلاً من أن يشكر الله عز وجل، فندم على أنه كفر بالله عز وجل وأشرك مع الله عز وجل غيره ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) بجميع ثمره فلم يبق منه شيء، وأصبح يقلب كفيه كما يفعل المتندم والمتحسر إذا فاته شيء ( عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ما كان معه من الأتباع والأنصار الذين يساعدونه على تمرده وكفره وعتوه واستكباره لم يستطيعوا نصرته، فإذا أتى بأس الله عز وجل وعذابه فلا يستطيع أحد من البشر أن يرده؛ لأنهم أقل من ذلك حيلة، فليس للبشر حيلة ولا وسيلة إذا نزل بأس الله عز وجل وعذاب الله عز وجل، فما كان لهذا الرجل فئة تنصره وتدفع عنه عذاب الله ونقمته، وما كان في نفسه منتصراً.
أقول ما تسمعون، ,استغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ...
لقد بين نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم لأمته كل ما ينفعها ،وحذرها من كل فتنة تضرها وتجعلها تنشغل بالعاجل الفاني عن الآجل الباقي، ومن ذلك فتنة عظيمة تميل إليها القلوب، وتحبها النفوس، كان الانشغال الزائد بها من أسباب التفريق بين الأرحام وقطع المحبة بين كثير من الناس والوئام، فتنة أوقعت بين الكثير العداوة والبغضاء، وجعلت أصحابها في محنة وشقاء بعد أن كانوا في طمأنينة وسعادة وهناء، ألا وهي فتنة المال، يقول صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ ) وقال صلى الله عليه وسلم ( فَوَ اللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ على من كان قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ ).
أيها الأحبة .. لا شك و لا ريب أن المال في هذه الدنيا هو عصب الحياة يستعان به على تحقيق المصالح وجلب المنافع في الدنيا كالإنفاق على النفس وعلى الأسرة والاستغناء عن سؤال الناس وإنفاقه في وجوه الخير التي بعون الله تنفع في الآخرة، فمن كان هذا قصده راعى في ماله حق خالقه سبحانه وحق العباد، وجعله وسيلة يستعين به على فعل الطاعات، والازدياد من الخيرات فكان ثمرة ذلك النجاح والفلاح بإذن الله،قال صلى الله عليه وسلم ( نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ-وفي رواية(العبد)-الصَّالِحِ )
وأما من ساء قصده فمال عن المشروع وصار همه من جمع المال ممنوع!، كالمباهاة والتعالي على الخلق ومنع الحقوق! والإنفاق في المعاصي والمحرمات فقد باء بالخسران والحرمان!
فلنحذر أشد الحذر من أن يكون همنا وغايتنا اللهث وراء تحصيل المال الزائل، فإن هذا الحرص مذموم ، وهذا السعي منبوذ، قال صلى الله عليه وسلم ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابن آدَمَ إلا التراب وَيَتُوبُ الله على من تاب )
وعلى المسلم أن يلزم القناعة إذا أراد نيل السعادة ،ويرضى بما كتب الله تعالى له، ويُسلم بما قُسم له، ويشكر الله جل جلاله على ما رزقه ويسأله المزيد من فضله ، قال صلى الله عليه وسلم ( كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
إخوة الإيمان والعقيدة ... ما زال الحديث حول سورة الكهف .. تلك السورة العظيمة – وكل سور القرآن عظيمة – هذه السورة التي بيَّن الله فيها الفتن عظيمة وسبل النجاة منها.. وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن الفتنة في الدين بذكر قصة أصحاب الكهف.
واليوم يكون الحديث عن فتنة أخرى ألا وهي فتنة المال، والتي ضرب الله لنا في سورة الكهف قصة صاحب الجنتين. قصة الذي أعطاه الله عز وجل من النعم فأطغته هذه النعم، كما قال عز وجل ( كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) فطبيعة الإنسان -إلا من رحم الله- أنه يطغى أن رآه استغنى.
هذه قصة رجلين جعل الله عز وجل لأحدهما من فضله ونعمته ( جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) فوصف الله عز وجل البستانين بأنهما جنتان، لأنه كثير الفروع والأصول والأوراق، تدل على أنهما كانتا في غاية الجمال مما يرجوه العبد من جنة في الدنيا، فكانتا جنتين ولم تكونا جنة واحدة، وكانتا من أعناب محفوفة بنخل، وجعل الله عز وجل بين شجر الأعناب وبين النخل زرعاً.
( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) فهي كانت تؤتي أكلها كاملاً، لم ينقص منه شيء، وهذه علامة على كثرة ثمرها وكثرة حصادها ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) نهر يشق وسطها، وهذا يدل على أن سقيها كان بدون كلفة وبدون مشقة شديدة، فيسر الله عز وجل لها الري، ويسر الله عز وجل لهذا الري من كل أنواع الخير.
( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) دخل الجنتين في وقت احتملت الأشجار بالثمار فقال لصاحبه وهو يحاوره ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) تعزز بالقيم الزائفة، تعزز بالمال وبالشهرة وبالجاه وبالأتباع.
( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) الذي يظلم إنما يظلم نفسه ... الذي يكفر بالله عز وجل والذي لا يشكر الله عز وجل والذي لا يجتهد في طاعة الله عز وجل إنما يظلم بذلك نفسه، فهذا الرجل دخل جنته وهو ظالم لنفسه ورأى استمرار الملك والسلطان فترة طويلة (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) يظن أن الدنيا تدوم له. فهو اطمأن إلى الدنيا وركن إليها، وركن إلى ظل زائل وعرض حائل. ثم أتبع ذلك بأنه كفر بالآخرة، حيث قال ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا ) فاطمئنانه وركونه إلى الدنيا جعله يكفر بالآخرة، وهو مع كفره يظن أنه لو كانت هناك قيامة فسوف يجد خيراً منها منقلباً ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) هذا شأن كثير من الأغنياء، يظنون أن فيهم خاصية، وأنهم يستحقون هذا التكريم، ويستحقون هذا المال في الدنيا، ويستحقون أن يكونوا أرفع من الناس وأعلى منهم في الدنيا، وكذلك في الآخرة .
ذكره المؤمن الناصح ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ) ذكره بأصله وأصله أبيه آدم (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) وأنه كان نطفة .. كان ماءً مهيناً تستقذره النفوس وتأنف منه ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) فلو تفكر الإنسان في أصله لما تكبر على الله عز وجل ولما تعالى على عباد الله عز وجل.
والمؤمن الحق لا يتقوَّل بهذه المقولة، وإنما يعتز بإيمانه ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ).
ثم أن المؤمن نبه صاحب الجنتين المغرور على الواجب عليه فقال ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ) هذا هو الواجب على العبد إذا أعجبه شيء، قال صلى الله عليه وسلم ( إذا رأى العبد المسلم شيئاً يعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره)؛ لأن العبد قد يحسد نفسه وقد يحسد ماله وقد يحسد أولاده.
فينبغي للعبد أن ينظر إلى من دونه في الدنيا فيعرف نعمة الله عز وجل عليه، ويشكر نعمة الله عز وجل عليه، وهذا ما تذكره به الرجل المؤمن ( إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ) والمؤمن عنده بصيرة فكأنه ينظر فيرى الآخرة، قال ( فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ) فالله عز وجل يمتحن الأغنياء بالفقراء ويمتحن الفقراء بالأغنياء، والمال كله ملك لله عز وجل ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ).
عباد الله ... إن العبد الذي لا يشكر نعمة الله عز وجل عليه فهو يعرِّض نفسه بزوال هذا النعيم العاجل، وبخراب الجنة، وأن يزول ملكه وسلطانه في الدنيا ( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) أي: ناراً من السماء ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) فهذا النهر المرتفع على الأرض الذي يسقي أرضك وزرعك قد يذهب، فيهلك الشجر من قلة الماء (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ).
لقد تحقق ما توقعه الرجل المؤمن، عند ذلك تذكر نصيحة المؤمن له، وكيف أنه قابل نعمة الله عز وجل بالكفر، بدلاً من أن يشكر الله عز وجل، فندم على أنه كفر بالله عز وجل وأشرك مع الله عز وجل غيره ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) بجميع ثمره فلم يبق منه شيء، وأصبح يقلب كفيه كما يفعل المتندم والمتحسر إذا فاته شيء ( عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ما كان معه من الأتباع والأنصار الذين يساعدونه على تمرده وكفره وعتوه واستكباره لم يستطيعوا نصرته، فإذا أتى بأس الله عز وجل وعذابه فلا يستطيع أحد من البشر أن يرده؛ لأنهم أقل من ذلك حيلة، فليس للبشر حيلة ولا وسيلة إذا نزل بأس الله عز وجل وعذاب الله عز وجل، فما كان لهذا الرجل فئة تنصره وتدفع عنه عذاب الله ونقمته، وما كان في نفسه منتصراً.
أقول ما تسمعون، ,استغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ...
لقد بين نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم لأمته كل ما ينفعها ،وحذرها من كل فتنة تضرها وتجعلها تنشغل بالعاجل الفاني عن الآجل الباقي، ومن ذلك فتنة عظيمة تميل إليها القلوب، وتحبها النفوس، كان الانشغال الزائد بها من أسباب التفريق بين الأرحام وقطع المحبة بين كثير من الناس والوئام، فتنة أوقعت بين الكثير العداوة والبغضاء، وجعلت أصحابها في محنة وشقاء بعد أن كانوا في طمأنينة وسعادة وهناء، ألا وهي فتنة المال، يقول صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ ) وقال صلى الله عليه وسلم ( فَوَ اللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ على من كان قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ ).
أيها الأحبة .. لا شك و لا ريب أن المال في هذه الدنيا هو عصب الحياة يستعان به على تحقيق المصالح وجلب المنافع في الدنيا كالإنفاق على النفس وعلى الأسرة والاستغناء عن سؤال الناس وإنفاقه في وجوه الخير التي بعون الله تنفع في الآخرة، فمن كان هذا قصده راعى في ماله حق خالقه سبحانه وحق العباد، وجعله وسيلة يستعين به على فعل الطاعات، والازدياد من الخيرات فكان ثمرة ذلك النجاح والفلاح بإذن الله،قال صلى الله عليه وسلم ( نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ-وفي رواية(العبد)-الصَّالِحِ )
وأما من ساء قصده فمال عن المشروع وصار همه من جمع المال ممنوع!، كالمباهاة والتعالي على الخلق ومنع الحقوق! والإنفاق في المعاصي والمحرمات فقد باء بالخسران والحرمان!
فلنحذر أشد الحذر من أن يكون همنا وغايتنا اللهث وراء تحصيل المال الزائل، فإن هذا الحرص مذموم ، وهذا السعي منبوذ، قال صلى الله عليه وسلم ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابن آدَمَ إلا التراب وَيَتُوبُ الله على من تاب )
وعلى المسلم أن يلزم القناعة إذا أراد نيل السعادة ،ويرضى بما كتب الله تعالى له، ويُسلم بما قُسم له، ويشكر الله جل جلاله على ما رزقه ويسأله المزيد من فضله ، قال صلى الله عليه وسلم ( كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس )