{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. 27 /1/ 1446هـ

د عبدالعزيز التويجري
1446/01/26 - 2024/08/01 17:55PM

الخطبة الأولى : {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.       27/1/1446هـ

الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، منَّ عَلَيْنَا, فَهَدَانَا, وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا, وَكُلُّ بَلَاءٍ حَسَنٍ أَبْلَانَا, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ربَّ غيُره ولا إلهَ سواه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَنا محمدٌ عبدُهُ ورسولُه صلى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابهِ و من اقتفى أثرَهُ واتبعَ منهجَهُ بإحسانٍ إلى يومِ الدين.. أما بعد

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}

ربنا جل جلاله غني كريم جواد مجيد .. منح عباده نعماً وفضلاً وعطاءً ، لو أعطوا الخيار لم يبلغوا سؤلها .. فكم في بدن الإنسان وحياته من نعمة لا يعلمها ولا يَهتدي إلى العلم بها {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}.  

    كم نعمة لك عندي لا أطيق لها  **  شكرا ولو أنني استغرقت ساعاتي

    أحسنت يا رب تقويمي بتسوية   **  مكمـــلا أدوات لي وآلات

    حفظتني رب إذ لا خلق يحفظني **  برا وقدرت أقواتي وأوقاتي

 ولم تزل عين بر منك تلحظني ** فما خلت من صنيع منك حالاتي

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}

فمن أي أبواب النعم والفضائل نذكر،  ومن أي خزائن العطايا والهبات نستذكر

ابنعمة الخلق والايجاد؟ أم بنعمة الهداية والرشاد ؟ ابنعمة المراكب والاسكان ، أم بنعمة الصحة والعافية من الأسقام {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.

أنعمَ اللهُ علينا نعماً لم تشهدِ الدنيا لها مثيلًا ، يعبدُ الإنسانُ ربَهُ آمنا ظاهراً ، ويختارُ من الطيباتِ ما لذ وطاب، ونستدفئُ من صروف الأيامِ بما تعجَزُ عن حملهِ الأجسام {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}..

فهل نقصنا من نعمةٍ لم تظهر آثارهُا علينا ؟ وهل في خاطرِكم فضلٌ وإحسانٌ لم يمنحنا به ربنُا؟

 فكم لك ربنا من ستر على كل خاطئ ...  وكم لك من بر على كل ظــــــــالم

 وجـــــودك موجـــود وفضلك فائـــــض   ... وأنت الذي ترجى لكشف العظائم

  وبابـــــك مفتـــــــــوح لكــــــــل مؤمــــــــل    ...  وبـــرك ممنــــوح لكـــــــــــل مصـــــادم

فيا للهِ كم نتقلبُ بنعمٍ من الطيبات ، وكم هي الأرزاق تجبى إلينا من كل الثمرات ، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.

خَرَجَ رَسُولُ اللهِ r ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ،، قَالَ: «وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ r وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ r لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ " أخرجه مسلم

فأيُّ عذرٍ لنا عند ربِنا إذا لم نشكرْه، وبطوننا لا تكادُ تخْمصُ من الجوعِ ..

 وأيُّ بقاءٍ نستحقُه إذا أنكرنا جميلَه، وآلاؤه ونعماؤه تغشانا بالليلِ والنهار ، تُجبى إلينا ثمراتُ كلِ شيء ، وأرضُنا يخرجُ من أكمامِها الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، وسهولُنا فيها جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.

استدامت علينا الطيباتُ من النعمِ حتى ملها البعضُ إذا قُدمت بين يديه، وتندرَ منها آخرون بأنها من طعامِ الأجدادِ الأولين . أولم يبلغْ هؤلاءِ ما حدثت به عَائِشَةُ رضي الله عنها، بقولها: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ r وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ» استدامت أكلَ الشعيرِ وما ملته أو تذمرت منه.. فما ذا لو رأت الصديقة منْ كَثُرَتْ عليهم الخيرات حتى ملو الطيبات ، فمِنْ متأففٍ من أجواء بلده ، ومن يأكل أو يشرب بأغلى الأثمانِ ليجاري به السفهاء، أو يضاهي به الأغنياء..

وفي صحيح مسلمٍ قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، أَخَذَ رَسُولُ اللهِ r بِيَدِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ ، فَلَمَّا انْتَهَى قَالَ: " هل مِنْ غَدَاءٍ أَوْ عَشَاءٍ ؟ قَالَ: فَأَخْرَجُوا فَلْقًا مِنْ خُبْزٍ، فَقَالَ: «مَا مِنْ أُدُمٍ؟» فَقَالُوا: لَا إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ: «فَإِنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الْأُدُمُ»، قَالَ جَابِرٌ: «فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ نَبِيِّ اللهِ r .

كُلْ من الطيباتِ ما شئتَ ، واستمتعْ من بما أحل الله لك، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } ولكن من غير إسراف ولا مخيلة ، ولاتبذيرٍ أو استهانة.

التفاخرُ والمباهاتُ بتصويرِ المآكلِ والمشاربِ مُرآةٌ للناس منهيٌ عنه، قال عليه الصلاةُ والسلام «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " كُلْ مَا شِئْتَ، وَالبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ "أخرجهما البخاري.

هل شكرَ نعمةَ اللهِ من يرى اللقمةَ من الطعامِ ساقطةً تدوسُها الأقدامُ فلا يرفعُها ويكرمُها،  وهل شكرَ نعمةَ اللهِ من يأخذُ أطيبَ الطعامِ ويُلقي في الأرض باقيَه.

 كثرةُ الأطعمةِ بأصنافِها وأشكالِها لايعني عدمَ حفظِ باقيها واحترامِها .. ترى ذلك جلياً في الحفلاتِ والبوفيهات، والأعراسِ والمناسبات ، وفي المطاعمِ وأسواقِ الخضار ، حين تُخلطُ باقي الأطعمةِ مع باقي النفايات{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}

لايُزيل النعمَ ، ولا يهلكُ الأممَ إلا البطرُ والأشرُ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)

تَشْكُرُ نعمة الله إذا علمت أن ممن حولك حلت عليهم الخطوب والرزايا ، والتفتن والبلايا، فلا يعرفون ليلهم من نهارهم ، ولا أمسهم من غدهم ، خوف يقلق مضاجعهم، وجوع ينسي فرحتهم ، وفقد لأحباب تتجرع أحزانه حناجرهم ..  قال أبو أُمَامَةَ رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ r إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: «الحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، رَبَّنَا»، وكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ»

      فهل يراكَ الإلـــهُ معترفاً   **   بشكر نعمائه التي وهبا

 (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور

الخطبة الثانية

 الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطَفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى... أما بعد:

لو كنتُ أعرفُ فوق الشكرِ منزلةً        أعلى من الشكرِ عند اللهِ في الثمنِ

إذاً منحتُكَـــــــــــــــها ربي مهذبــــــةً            شكراً على صنعِ ما أوليتَ من حسنٍ

شُكرُ اللهِ على نعمةِ الأمنِ والأمان.. إعلانِ التوحيدِ وإظهارِ السنة، ونشرِ الفضيلةِ ومحاربةِ الرذيلة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ومن علّقَ نفسَه وقلبَه بغيرِ اللهِ وكَلَهُ اللهُ إلى من تعلّق به، وكان قلِقَ النفسِ، مضطربَ البالِ، متعثرَ الخُطا .

شكرُ اللهِ على نعمةِ المساكنِ والمدافئِ أن تنهضَ لنداء الله إذا نادى (الصلاةُ خيرٌ من النوم)

شكرُ اللهِ برغدِ العيشِ  حفظُها وإطعامُ الطعام، وتلمسُ ذي المسغبة ..

شكرُ اللهِ على المراكبِ.أن تَحملَ من لا ظهرَ له، وتصلَ بها الأرحامَ، ولا تؤذي بها الناسَ والجيران.

شكرُ اللهِ على أجهزةِ التواصلِ .. تسخيرُها لأن تكون منبرَ دعوةِ خيرٍ ، ومنطلقَ توعيةٍ وتوجيه ، ووسيلةَ برٍ وصلة ، لا سلةً لتجميعِ ترهاتِ التافهين ، ولا مستودعاً لأفكارِ الساقطين، ولا محطةً لاستقبالِ فراغاتِ الآخرين ..

 كفرٌ بهذه النعمةِ ..أن يُهدمَ حصنُ الفضيلةِ من خلالها ، ويُكسرَ بابُ الحياء برسائلها، وتُنتهكَ حرماتُ الله بمواقعها ..

كفرٌ بنعمتها أن تُقتلَ بها الأوقاتُ، أو تستنزفَ من أجلها الأموالُ ، أو يُضَيعَ ببرامجها الأطفالُ ، أو تكونَ مصدرَ أذيةٍ وابتزازٍ.  (وقليل من عبادي الشكور )

ولو أنّ لي في كلِ منبتِ شعرةٍ ... لسانا يُطيلُ الشكرَ كنتُ مقصّرا

والشكرُ وإن قلَ فهو ثمنٌ لكلِ نوالٍ وإن جلّ

اللهم زدنا من خيرك وبرك وإحسانك واجعلنا لنعمك شاكرين ولأوامرك ونواهيك ممتثلين.

اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا، وأدم الأمن والإيمان في ربوعنا ..

 اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد..

المرفقات

1722524173_{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.pdf

1722524193_{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.docx

المشاهدات 1116 | التعليقات 0