فاكهة المجالس (خطبة مختصرة وشاملة عن الغيبة).
عبدالله الغامدي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
من أعظم المشاهد المروّعة التي نقلها لنا نبينا ﷺ من رحلة معراجه إلى السماء؛ ذاك المشهد الذي تجثو له الركب، وتوجل له القلوب، وتفزع منه الأفئدة، يقول ﷺ: "لما عُرِجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم!" [1].
ما أفظع والله هذا الجزاء! أن يتولَّى الإنسانُ مهمة تعذيب نفسِه فيُجرِّحُ نفسَه ويُقطِّعُ أعضاءه في الآخرة؛ بسبب أنَّه كان يُقطِّعُ أعراض الآخرين ويجرحها في الدنيا!
وحتى تعلم -أيُّها الكريم- عظمةَ هذا الأمر وخطره في شريعةِ ربِّ العالمين؛ فقلِّبْ طَرفكَ في آيات المصحف الشريف من أوله إلى آخره؛ فلن يُطالعك في تلك الآيات مشهدٌ أشدُّ ترويعًا ولا فظاعةً من هذا المشهد، الذي صوِّره لنا ربُّنا بقوله: ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾؟!
يقول ابنُ عباسٍ -حبر الأمة وترجمان القرآن- في تفسير هذه الآية: "حرّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء، كما حرّم الـمَيْتة" [2].
فأكثرُ النَّاس يتورّعون ويستقذرون أكلَ الميتة؛ لكنهم لا يتورعون ولا يستعظمون أكلَ لحومِ وأعراضِ إخوانهم. ولهذا لما سمع النبيُّ ﷺ رجلين يغتابان بعض من أُقيمَ عليهم الحدّ، قال لهما: "انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، فقالا : يا نبي الله ، غفر الله لك ، ومن يأكل من هذا ؟ قال : فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من أكل الميتة" [3].
وبعض الناس ربُّما يقول: أنا لا أغتابُ الناس، أنا فقط أصفهم بما فيهم! ولا يدري أنَّ هذا الذي لا يعدُّه من الغيبة؛ هو عينُ وحقيقةُ الغيبة بنصِّ تعريف النبيِّ ﷺ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه!"[4]
وليست الغيبة مقتصرةً على اللسان فقط -كما يظن البعض- بل قد تكون الغيبة بالإشارة أو التقليد أو تحريك الرأس أو غمزة العين؛ فكلُّ شيء يكره أخوك أن يُذكرَ عنه في غيابه=فهو من الغيبة أيًّا ما كانت طريقة ذكره، فعن عائشة قالت: قلت للنبي ﷺ: "حسبك من صفية كذا وكذا! -تعني أنها قصيرة- فقال: لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته" [5].
مُجرَّد إشارةٍ يسيرةٍ تدلُّ على صفة موجودة في خِلقة الإنسان؛ لو مُزجت هذه الإشارة فقط بماء البحر لمزجته من عظمتها؛ فكيف يكون شأنُ الغيبة إذا كانت بقولٍ صريح، أو أمرٍ أكبر من ذلك؟!
وبعض الناس لا يُصرِّح بالغيبة، لكنَّه يُخرِجها في قوالبَ خفيَّةٍ غيرِ صريحة، وهذا من أخطر الأمور؛ لأن السامع والمتكلّم يظنان أنّ ذلك ليس من الغيبة فيتساهلان فيه، وهما في الحقيقة منغمسان فيها! وفي ذكر بعض أمثلة ذلك يقول الإمام النووي -رحمه الله-: "ومن ذلك غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يُعرضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح، فيُقال لأحدهم: كيف حال فلانٍ؟ فيقولُ: الله يُصلحنا، الله يغفر لنا، الله يُصلحه، نسأل الله العافية...نعوذ بالله من الشرّ، الله يُعافينا من قلةِ الحياء، الله يتوبُ علينا؛ وما أشبه ذلك مما يُفهم منه تنقصهُ، فكل ذلك غيبة محرمةٌ؛ وكذلك إذا قال: فلانٌ يُبتلى بما ابتلينا به كلُّنا، أو مالهُ حيلةٌ في هذا، كلُّنا نفعلهُ؛ وهذه أمثلةٌ، وإلا فضابط الغيبة: تفهيمك المخاطب نقص إنسان" [6].
ووالله لو تصوَّرنا -يا كرام- أن حسناتنا التي تعبنا في كسبها وتحصيلها؛ من قراءةٍ للقرآن، وصلاةٍ، وصيامٍ، وذكرٍ لله، وصدقة، وبرّ للوالدين؛ لو تصوّرنا أن هذه الحسنات جميعًا ستتطاير يوم القيامة وسنفقد أجرها بسبب الغيبة؛ لكان في ذلك أعظم رادع لنا عن الكفّ عنها؛ واستمع في ذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنَّه سأل الصحابة فقال: "أتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ! فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار" [7].
ولذلك كان السلف رحمهم الله يدركون أثر الغيبة في محق ثواب الأعمال وحسنات العبادات، فكانوا يحذرون منها أعظم الحذر، ويتحرّزون منها أشدّ التحرّز؛ فهذا الحسن البصري يأتيه إليه رجلٌ فيقول له: بلغني أنك تغتابني! فقال الحسن -رحمه الله-: "ما بلغ قدرك عندي أن أُحكّمك في حسناتي!".
وقيل له مرةً: "اغتابك فلان! فبعث إليه بطبق فيه رطب، وقال: أهديت إليَّ بعض حسناتك، فأحببت مكافأتك".
ويُصوِّرُ الغزاليُّ -رحمه الله- أثر الغيبة على تطاير الحسنات بقوله: "الغِيبة، هي الصاعقة المهلكة للطاعات، ومثلُ من يغتاب: كمن ينصب منجنيقًا، فهو يرمي به حسناته شرقًا، وغربًا، ويمينًا، وشمالًا!".
فلماذا نعطي الآخرين أجور عبادات تعبنا في تحصيلها، وكيف نهديهم حسناتنا، والحسنة الواحدة قد تكون سببًا لنجاتنا يومَ الفزعِ الأكبر؟!
اللهمّ إنَّا نعوذ بك من الغيبة؛ فإنها بئست السيئة والخطيئة، اللهمّ طهِّر ألسنتنا وأحاديثنا ومجالسنا منها، واغفر لنا وارحمنا يا غفور يا رحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وذريته وإخوانه، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ ما قَدَّمَت لِغَدٍ﴾ أما بعد:
يودُّ كثيرٌ من النَّاس أن لو ترك الغيبة، لكن يصدُّه عن ذلك أنَّه يقول في نفسه: إذا نبَّهتُ النَّاس ونهيتهم عن الغيبة فربُّما استثقلوني في المجالس! فيشارك النَّاس في وزر غيبتهم -ولو بمجرّد الضحك- لئلا يملّه ويستثقله الآخرون.
وعلى الواحد منَّا إذا لبَّسَ عليه الشيطانُ بهذا: أن يُذكِّر نفسَه بقول أُمِّنا عائشة -رضي الله عنها- حينما قالت: "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس"[8].
فإذا اخترتَ رضى الله سبحانه وتعالى، ونهيتَ ونبَّهتَ غيرك على الغيبة بأسلوبٍ حَسَن؛ فتيقَّن أنَّ الله سيقذف في قلوبِهم مودَّتك ومحبَّتك، ولو كرهوا ذلك أو تضايقوا منه في بداية الأمر.
ورُبّما قال قائل: فما كفَّارة من اغتبتهم سابقًا وكيف أتحلل منهم؟!
والجواب: أنَّ في ذلك تفصيل كما ذكر الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-، فقال: "إن كان علم بهذه الغيبة فلا بد أن تذهب إليه وتستحله، وإن لم يكن علم؛ فلا تذهب إليه، واستغفر له وتحدث بمحاسنه في المجالس التي كنت تغتابه فيها؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات"[9] .
وختامًا: فمن أعظم الأمور التي تُعين على ترك الغيبة: أن تتصوّر أنَّك لو اغتبت كلَّ يومٍ شخصًا واحدًا فقط وعشتَ ستين سنة؛ فإنك ستلقى الله يوم القيامة بأكثر من ستة عشر ألف خصيم! كُلُّ هؤلاء يُطالبك بحسناتك في وقتٍ أنت أحوج ما تكون فيه إلى حسنةٍ واحدة!
فاللهم طهِّر ألسنتنا من الغيبة، وأعنَّا على حفظ ألسنتنا منها، واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين
هذا وصلُّوا وسلِّموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
المرفقات
1719502534_فاكهة المجالس (خطبة الغيبة جاهزة للنشر)..docx
1719502535_فاكهة المجالس (خطبة الغيبة جاهزة للنشر)..pdf